الفيلم الوثائقي الطويل “مول الماء” للمخرج فؤاد السويبة…. رحلة الأمل وجمالية البساطة
الفيلم الوثائقي الطويل “مول الماء” للمخرج فؤاد السويبة….رحلة الأمل وجمالية البساطة
بقلم: مصطفى ضريف
بشكل هادئ ورزين دون بهرجة أو ضجيج، يواصل الكاتب والمخرج فؤاد السويبة إجتهاده الإبداعي هو يطل علينا بجديده السينمائي الفيلم الوثائقي: “مول الماء”.
إذا كان الفيلم الوثائقي بمثابة توثيق فعلي لحدث أو حقيقة من الواقع المعاش فإن فؤاد السويبة إستهواه ذلك بالتدقيق، فانطلق في البحت عن تيمة تستحق المتابعة والإشادة من خلال فيلمه “مول الماء”، ليقف بكاميراه ساردا رحلة رجل يزاول مهنة موزع ماء طانطان عبر ربوع الأقاليم الصحراوية. الفكرة التي إنطلق منها المشروع السينمائي تتمثل في كون هاته المهنة يهددها الإنقراض والزوال هنا والآن مع الأجيال الجديدة، لقد آمن المخرج بالفكرة في ظل ما تعرفه المنطقة الصحراوية من ندرة المياه مع الظروف الطبيعية الحارة التي تؤزم المعيش اليومي في منطقة قاحلة بصحاري الجنوب. إذن مشروع إعداد سيناريو ليس بالشيء الهين لتضمينه محاكاة معاناة مهني يشتغل منذ ما يقرب من خمسين سنة في مجال توزيع الماء وصعوبة الحصول على آخر القطرات بعد أن جفت الكثير من الآبار.
رحلة الأمل
تنطلق بنا الكاميرا في رحلتها صوب نافدة المنزل المتواضع المتواجد في منطقة نائية منتصبة بين الجبال وامتداد الصحاري والذي يقطنه البشير، الشيخ العجوز موزع الماء، بمعزل عن ضجيج المدينة وغوغائها كرمزية لأمن وسكينة الخلاء بخلاف الوسط الحضري المشتعل بهموم شتى، بل سنكتشف أن الشاحنة الصهريج أمست قاب قوسين أو أدنى لتعلن عن هلاكها وتصبح حطاما معلنة عن نهاية خدمتها بعد نصف قرن من العطاء السخاء في ربط وشائج الصلة بين شمال الأقاليم الصحرواية وجنوبها المتخم بالقصص الصوفية. تدلف بنا الكاميرا إذن داخل المسكن والرجل يردد بعض الأذكار ويخلط العجين، بعدها تأتينا لوحة فنية مربعة ومؤطرة بشكل جيد لوجه الرجل: وجه ذو ملامح بدوية عربية صحراوية أصيلة تكسوه لحية مهذبة أنيقة دلالة تبشر أن الرجل متعلق بقيمه وطقوسه وبدينه الإسلامي.
تبدأ الرحلة على متن شاحنة محملة بصهريج الماء يكاد يكون الرجل محبطا مطأطأ الرأس من تكرار عطب الشاحنة بسبب تقادمها وهلاكها، هاته الأعطاب المتكررة التي سارت بمثابة الإكراه القوي والحاجز الذي يقف أمام بطلنا في حسرة من أمره كي يكمل رحلته ويستمر لتحقيق طموحه وشغفه كبير ليصل بالماء إلى كل منتظريه، فيبقى الأمل وأمله كبير موقضا، بداخله هواجس الماضي يتذكرها منتشيا من أجل تحقيق رغبات الناس في الماء وكله عزيمة، لأن هذا العمل سار يسكنه ويحيا بداخله كأنه جزء من عبادته تقربه لخالقه لا يعرف ماذا يفعل دون مهنة توزيع الماء على حد قوله: “ما بقدر يفصلني عن هادا الميدان شئ إنه يمشي في دمي”. تغمره الفرحة والسعادة الكبرى داخليا لما يحط الرحال بمكان ما وهو يصب ويسقي الماء لمحتاجيه في رحلة متعبة وماتعة شعارها الأمل، تجعل من الفيلم لوحة من لوحات الحياة الواقعية الإنسانية تستخدم الواقع كمادة خام وقد ترجمته كاميرا فؤاد السويبة بمصداقية ونزاهة.
البساطة بجماليتها
الأكيد والمؤكد أن فؤاد السويبة في إختياراته للعلامات المكونة لفيلمه “مول الماء” لم تكن إعتباطية بل له من الوعي الفكري والفهم الناضج بتقديم عمل سينمائي في المستوى يحقق إنتظارات المتلقي الشيء الذي جعله أمام توظيفات تتلاءم وتتناسق مع سرده الفيلمي، إنطلاقا من اللغة والخطاب المستعمل إن صح التعبير ثم اللباس والديكورات الطبيعية الخلابة المؤتثة بالواحات والجبال وصحراء شاسعة المدى إضافة إلى المباني، كل شيء مركب بشكل بسيط على إعتبار أن الشخصية المحورية في الفيلم هو رجل بسيط متواضع عفوي تلقائي في حكيه وكلامه متشبع بقيم الدين الإسلامي وسالك بروح الصوفية التي سلكها السالكون من قبله إلى رحابة السماء، لا يخلو لسانه من الذكر والتوجه إلى الخالق سبحانه بالدعاء وإذا ما إعتبرنا الحضور الموسيقي داخل الفيلم جاء مقتضبا، فإن صوت الآذان ورناته المترددة الصادحة بين الجبال ومعه نغمات الذكر يمكن أن تكون عنصرا موسيقيا وإيقاعيا بديلا يمكن المخرج تقصد ذالك ليفسح المجال لآهات ولواعج الشخصية وهي تفوح بعوالمها وما تكتسيه من إنسانية خلاقة تجاه الآخر من صفات الطيبة، الكرم، الرحمة، الصبر، صلة الرحم، وهو الإنسان البدوي المزهو ببداوته لأن البادية قمة البساطة بكل تجلياتها على حد قوله” البادية وطبيعتها هي التي تلائمني، أختار النوم في خيمة في البادية عن النوم في قصر” ويؤكد قائلا كذالك “الخير في البادية وكل شيء في البادية”، عكس المدينة التي سماها بلاد الملاهي من هذا البوح العفوي الذي ينم عن سكون رجل في محراب التصوف بكل كلمة ينطق بها. هنا ينطبق المأثور عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي شاعر المتصوفة الذي إعتبر الماء دلالة عن الحب الإلاهي وتعبيرا عميقا عن الشوق والعشق وعن كل ما هو روحاني وصوفي، فالماء تعبير عن الإغراق في ملكوت الله وأسرار كونه.
أعتقد أن المخرج وهو في خضم الكتابة السيناريستية مع فريقه وفي رحلة الإنتاج وتجهيز مشاهد الفيلم إلى جانب المنتج زين العابدين شرف الدين، كان لهما هذا الإستحضار الواعي بربط الماء مع شخص يخطو كل خطوة تقربا إلى الخالق مما يجعل كل المعطيات بسيطة في تناولها، لكن عميقة في طرحها بحمولة فكرية يؤسسها فؤاد السويبة ربما كأسلوب لإشتغاله السينمائي ونظرته لما يقدم للمتلقي المغربي خاصة ومعلوم أن ركوب مغامرة البساطة ليست بالعملية السهلة وهي تكتسي بجماليات فنية عبر جل مشاهد الفيلم دون إرتجال أو إبتدال، لقد جعل عين الكاميرا مترصدة بكل دقة مسار الشاحنة وهي تقدم لنا الفضاء الصحراوي الجميل الممتد إلى لا نهاية له لقد استطاع المخرج برؤية متبصرة رزينة قيادة كاميرته لتوثيق محطة مهمة في تاريخ المعيشي اليومي الصحراوي بكل إحترافية ودقة في سرد الحكي الفيلمي. قد تبدو عدسة الكاميرا حرة طليقة أمام الفضاء الطبيعي لكنها مقيدة بمخرج راكم تجارب إخراجية متعددة بفيلموغرافية تتنوع بين الفيلم الروائي القصير و الفيلم الوثائقي، ثم الكتابة الإبداعية في مجال الرواية، متشبعا بحساسية سينمائية منفتحة على الكون ما يجعله ينهل من كل هذا ليقدم لنا فيلما غنيا بإبداع محكم مستلهما قصته من قصص إنسانية معاشة بأقاليمنا الصحراوية.
للإشارة سيعرض الفيلم يوم الجمعة 25اكتوبر ساعة التالة بعد الزوال بقصر التقافة والفنون بطنجة ضمن المسابقة الرسمية الفيلم الوثائقي.