swiss replica watches
الفراغ الأيديولوجي: أزمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – سياسي

الفراغ الأيديولوجي: أزمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام

سمير الحمادي

حاول داعش، تحت تأثير فائض القوة، والوقع المدوي لصورتها الإعلانية، أن تتجاهل حقيقة مهمة ومربكة، وهي أنها، واقعياً، تتحرك خارج مدار اللاهوت السلفي الجهادي الذي يؤطر مسارات الجهاد العالمي منذ تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي يجعلها في وضع فراغ أيديولوجي قد لا يبدو واضحاً تماماً في المرحلة الراهنة، لكنه مع الوقت سينكشف، الأمر الذي سيؤثر قطعاً على اندفاعاتها العسكرية، وعلى جهودها في “تعبئة المؤمنين” التي تسيير اليوم بصورة جيدة.

فالفاعلون الرئيسيون في الحركة الجهادية المعاصرة متفقون على انحرافها العقائدي والسلوكي، وعلى بطلان اختياراتها / اجتهاداتها الشرعية، الخالية من أي حجية فقهية، وفي رأيهم أنها لا تعبر عن عموم التيار الجهادي ولا عن ماهيته الحقيقية، بل هي مجرد نسخة مكررة ونمطية من فرقة الخوارج المشبوهة، وهو اتهام سيء للغاية يحرص الجهاديون دائماً على رده.

أما تنظيم القاعدة: الراية التي تلتقي تحت ظلها المجاميع الجهادية عموماً، إما فعلياً أو رمزياً، فقد تبرأ زعيمه أيمن الظواهري منها في وقت مبكر، معلناً انحيازه الكامل إلى “جبهة النصرة” التي تقاتلها بلا هوادة.

بمتابعة الجدل القائم حول الموضوع داخل دوائر الجهاديين، وهو جدل استثنائي من ناحية تعدد أبعاده الدينية والسياسية، وجرأة محتواه وتعبيراته، يتضح أن هناك بالفعل أزمة تتعلق بطبيعة النسق الأيديولوجي الحاكم لسلوك داعش، إن من جهة مواءمته لعقيدة أهل السنة والجماعة (العقيدة السلفية)، في الجزء الخاص بمسائل التكفير وفقه الجهاد، أو من جهة تأثيره على صورة “الجهاد الشامي” لدى الرأي العام العربي والإسلامي (= الحاضنة الشعبية).

الفقرات التالية من انتقادات / إدانات أهم ثلاثة رموز في خارطة التأثير الفكري الجهادي (أطلس الأيديولوجيا المتشددة، ويست بوينت، 2006) تعكس بوضوح إلى أي مدى تمثل داعش اقتحاماً عقائدياً مختلفاً ومعقداً للصف الجهادي الذي يواجه اليوم انقساماً غير مسبوق: في حدته كما في أزماته:

ــ تنظيم منحرف عن الحق / باغ على المجاهدين / ينحو إلى الغلو / تورط في سفك الدماء المحرمة / شوه الجهاد / تسبب في تقسيم المجاهدين / انحرافاته موثقة (أبو محمد المقدسي، بيان حال “الدولة الإسلامية في العراق والشام” والموقف الواجب تجاهها، أبريل 2014).

ــ من أهل الغلو والبدع / يكفرون المسلمين / يستحلون الدماء / كلاب أهل النار / يعتمدون فقه البغاة / أدخلوا المجاهدين في صراع داخلي (أبو قتادة الفلسطيني، ثياب الخليفة، يوليو 2014).

ــ جماعة دموية / من الخوارج الغلاة / تقاتل على البدعة والأهواء / لم يسلم من شرهم وإجرامهم أحد / لا تكترث لمصالح المسلمين / قتلاها في النار (أبو بصير الطرطوسي، بيان حول ما يجري من اقتتال بين جماعة الدولة ومجاهدي الشام، يناير 2014).

في مواجهة هذه الاتهامات المحددة والمباشرة، لا يتجاوز منطق الاستجابة لدى داعش لغة الإنكار، مع الإصرار على نفي وجود أي تعارض أيديولوجي بينها وبين السلفية الجهادية أو القاعدة.

فمن جهة، هي تجادل بأنها تطبق المعايير الواردة في السرديات الدعوية الجهادية بحذافيرها، بل إنها ذهبت في ذلك إلى أقصى حد: إعلان الخلافة.

وفي ما يتعلق بالانتقادات التي تلاحقها، هي تحتج بأنها ليست سوى أكاذيب وشائعات سببها حملات التشويه المنظمة التي تستهدفها من خصومها المتربصين.

أما خلافها مع القاعدة، فترى أنه إشكال محض حركي لا علاقة له بالأفكار ولا بالمرجعية، يرجع اللوم فيه إلى قيادة التنظيم الجديدة (أيمن الظواهري تحديداً) التي ضلت الطريق وتنكرت لميراث زعيمه الراحل أسامة بن لادن.

الحقيقة أن حرص داعش على التمسك بالمرجعية السلفية الجهادية، مع عدم الالتزام حرفياً بعقائدها وأجندتها، يحكمه اعتبار / إكراه استراتيجي يتمثل في حاجتها الحيوية في هذه المرحلة إلى غطاء شرعي (دُغمائي) يسند تحركاتها القتالية الواسعة والمكثفة (بعد إعلانها التمدد في سورية).

ففي ظل بيئة عملياتية معقدة لا تمنحها هامشاً من الوقت لاجتراح مدونة جهادية خاصة بها، لا يبقى أمامها، لكي لا تحترق أوراقها، إلا استعارة المرجعية المتوفرة، واستهلاك رصيدها، وإن بشكل مؤقت، وهي هنا السلفية الجهادية، المرتبطة أساساً بتجربة القاعدة: التنظيم / الرمز الذي تناصبه العداء وتسعى إلى أخذ مكانه.

تبدو هذه الخطة ناجحة حتى الآن، فآليات الاستقطاب والتجنيد التي تعتمدها داعش لتعزيز مواردها البشرية ما تزال فعالة: المقاتلون الأجانب الذين يتقاطرون عليها من كل أنحاء العالم في تزايد: من 12000 (تقرير “سوفان غروب”، يونيو 2014) إلى 15000( تقرير للأمم المتحدة، أكتوبر 2014)، كما أن صورتها لدى الرأي العام العربي ليست سيئة تماماً، إذ بلغت نسبة المتعاطفين الذين ينظرون إليها نظرة “إيجابية وإيجابية إلى حد ما” 11 بالمائة بحسب نتائج استطلاع للرأي أجري مؤخراً (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نوفمبر 2014)، وهو رقم قد لا يكون كبيراً، لكنه مع ذلك لا يخلو من دلالات، ويجب أخذه في الاعتبار، ما يعني في النهاية أن الحملة الإعلامية الشرسة التي تتعرض لها بشكل مكثف لم تنل منها أو تؤثر كثيراً في عناصر جاذبيتها.

منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، تسعى داعش، بحركية عسكرية مكثفة، إلى تأسيس هوية جهادية جديدة ومختلفة عن الخبرات الماضية، لذلك بدأت، أولاً، بفك ارتباطها بالقاعدة باعتبارها حاجزاً يتعين تجاوزه. وهنا علينا أن نشير إلى أن الانقلاب على القاعدة لم يكن إجراءً طارئاً، فرضته لحظة الثورة، ولكنه قرار “مفكر فيه” من أيام تجربة العراق، تحكمت فيه حسابات مسبقة، وكان فقط ينتظر لحظة الإعلان المناسبة.

لقد تأسست “قاعدة العراق” على يد الأردني أبي مصعب الزرقاوي في العام 2003، وبايعت بن لادن في أكتوبر 2004، لكنها فعلياًً ظلت خارج السيطرة (اعترف الظواهري نفسه بهذا في العام 2007)، وبعد تولي أبي بكر البغدادي (خليفة داعش الحالي) زمام القيادة في العام 2010، كان العد التنازلي للانفصال قد بدأ: أي أنها عندما انشقت بعد ثلاث سنوات، كانت فقط تضع نهاية رسمية لعلاقة “غير سوية” (التعبير للباحث الأمريكي هارون. ي. زيلين، فبراير 2014 ).

لكن ما لم تنتبه إليه داعش وهي تعلن تمردها أن النزول من قارب القاعدة لا يعني فقط القطيعة مع خطها الحركي، مع ما قد يترتب على ذلك من توترات ومواجهات تتحمل كلفتها حالياً من خلال الاقتتال الدائر بينها وبين “جبهة النصرة”وغيرها من الفصائل الجهادية في سورية. المعنى الأهم يتمثل، وبصورة أوضح، في الخروج من المجال الأيديولوجي للقاعدة: أي السلفية الجهادية، ذلك أن الخلاف مع القاعدة، حتى لو كان في ظاهره، أو في أوّله، خلافاً حول جدول الأعمال، لا يمكن أن يظل، لأسباب تتعلق بهُوية أطرافه، بعيداً عن حدود / ثنايا العقيدة.

لقد اكتشفت داعش هذه الحقيقة في وقت متأخر، عندما اشتد الهجوم عليها بحدة فاقت توقعاتها، لا من القاعدة والشخصيات المرتبطة بها فحسب، ولكن، وبدرجة أكبر، من معظم الفاعلين المؤثرين في التيار السلفي الجهادي، الذين أعلنوا براءتهم منها ويديرون اليوم عبر وسائل الإعلام المختلفة معركة ضارية ضدها، ومع أنها حاولت أن تعيد تعريف / تقديم نفسها من خلال إشهار الخلافة في يونيو الماضي، على أمل الاستفادة من عوائدها الرمزية (لما لها: أي الخلافة من ثقل في الوعي الديني الإسلامي)، فإن هذا الإشهار لم يغير شيئاً في الواقع، بل زاد الوضع تعقيداً، وزاد معه إصرار “الخليفة” ومعاونيه على التعالي على اعتراضات الجميع، وادعاء عصمة الحق / الإسلام الذي يواجه بلا هوادة أو تنازل جيوش الباطل / الكفر / الردة، الجاهلية…

غير أن هذا التعالي لا يمكن أن يستمر طويلاً، ذلك أن فرط القوة والتفوق الميداني وإن كان عنصراً أساسياً في عمليات التعبئة والتجنيد، خاصة مع وجود آلة دعائية تعمل بكفاءة، فإنه في حالة داعش ونظائرها من العَصَبيات الدينية الراديكالية ليس ميزة مطلقة، ولا يكفي وحده للبقاء على قيد الحياة إذا لم يسنده ظهير عقائدي يبرر أساسها الفكري وشرعية خَطَابَتها السياسية والاجتماعية وما يُبنى عليها من تمثلات عنفية / إرهابية.

إن المرجعية الإلهية، بكل موروثها الطهراني / التنزيهي، تؤدي دور الرافعة التي تقوم عليها بنية التنظيمات العقائدية وسلوكها الديني والسياسي، وحين تتعرض هذه المرجعية للتصدع، أو تخضع للتشكيك، لأي سبب كان، فهذا يعني أن يتدنى التنظيم إلى مستوى التشكيل العِصَابي المحض الذي لا يقوم إلا على إجرامه.

بالنسبة إلى الجهاديين المناوئين لداعش، تواجه الحركة الجهادية المعاصرة اختراقاً إجرامياً هو الثاني من نوعه بعد كارثة الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر التي أغرقت البلاد في تسعينيات القرن الماضي في حمامات من الدم. ولتدارك تبعات هذا الاختراق، الذي يشكل خطراً كبيراً على فرصهم في “التمكين”، في هذه اللحظة الفارقة والخاصة جداً من التاريخ العربي (لحظة الفوضى الثورية)، يحاولون تجريدها من المرجعية التي توظفها لصالحها، وتضييق الخناق عليها فكرياً، ودفعها إلى حالة من الفراغ الأيديولوجي التي ستؤدي مع الوقت إلى إضعافها وعزلها، بحيث ينتهي بها الأمر إلى مجرد ظل تكفيري / عنفي / إجرامي منزوع المعنى.

في المقابل، استطاعت داعش (حتى الآن) أن تتحمل إساءات بالغة من جهات كانت تعول على دعمها، أو في أقل الأحوال: وقوفها على الحياد، حتى لا تتصادم معها. ومع توسعها الجغرافي، وقدراتها الإعلامية الهائلة، أمكنها التكيف مع العداوات التي تطاولها من كل جانب، والاستمرار في لعبة التنكر الأيديولوجي التي أتقنتها خلال الفترة الماضية: أي التعالق / التداخل مع السلفية الجهادية ظاهرياً، وإقناع أنصارها بذلك، وهي النقطة المهمة بالنسبة إليها، بيد أن هذه اللعبة لها حد معين، وغير مفيدة على المدى الطويل، فخيوط الريبة بدأت تلتف حولها بالفعل، وهي إذا لم تكن منظورة في الوقت الحالي، لأسباب تتعلق بتعقيدات الصراع وتعدد مستوياته، فإنها في المستقبل ستتضح، وستتأكد، لا سيما أن حدث إعلان الخلافة، وما تلاه من تداخلات عنفية حادة، أرغمها على كشف جانب من وجهها الحقيقي.

إن أزمة داعش تتمثل في عدم قدرتها على التحكم في التراث الفكري الجهادي واختزاله في صورتها كما فعلت القاعدة عند ظهورها، وفي الوقت نفسه استحالة تجاوز هذا التراث، على أي نحو، باعتبارها تنظيماً جهادياً يجب أن يلتزم بقناعاته. إنها عاجزة عن تذويب أفكارها في السلفية الجهادية بقدر ما هي عاجزة عن تمييز تجربتها، وتخريج مذهبية جهادية بديلة ومقنعة، والنتيجة: فراغ أيديولوجي / هُوياتي يشقها من الداخل ببطء.

إن داعش تربح المعارك على الأرض، لكنها، في الحقيقة، تخسر الحرب الأهم: حرب الأفكار.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*