swiss replica watches
الخطاب الملكي بالرياض .. وثيقة للتاريخ وللحقيقة – سياسي

الخطاب الملكي بالرياض .. وثيقة للتاريخ وللحقيقة

عادل بنحمزة

شكلت لحظة الخطاب الملكي في القمة المغربية الخليجية التي احتضنتها الرياض، يوم الأربعاء الماضي، لحظة فارقة في العمل العربي المشترك، ولحظة للحقيقة، كما لا يتم الكشف عنها عادة، في ظل هيمنة لغة خشبية لا تقول شيئا في النهاية.

باختصار شديد، لقد اختار الملك، بمسؤولية عالية، أن يقدم الصورة الحقيقية للمشهد العام بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، دون مساحيق أو جمل بلاغية، وجه فيها رسائل لشعوب وأنظمة المنطقة، ورسائل مباشرة إلى القوى الكبرى، خاصة أن القمة المغربية الخليجية تلتها مباشرة القمة الخليجية الأمريكية بحضور الرئيس باراك أوباما، وهو ما أعطى للقمة المغربية الخليجية بعدا خاصا واستثنائيا.

في البداية، أكد الملك أن المغرب يتقاسم مع دول الخليج التحديات نفسها، ويواجه التهديدات نفسها، خاصة في المجال الأمني. وبالنظر إلى حجم هذه التهديدات والتحديات، فقد تساءل الملك عن أسباب انعقاد هذه القمة الأولى من نوعها، بقوله: “لماذا هذه القمة الأولى من نوعها ولماذا اليوم؟”، وأجاب بكون المغرب ودول الخليج تمكنا “من وضع الأسس المتينة لشراكة إستراتيجية، هي نتاج مسار مثمر من التعاون على المستوى الثنائي”، وذلك بفضل الإرادة المشتركة و”الإيمان الصادق بوحدة المصير، ومن تطابق وجهات النظر” بخصوص القضايا المشتركة. وهو ما يعني أن القمة جاءت تتويجا لعمل طويل مشترك ومثمر، وليس قمة من أجل القمة، على شكل القمم العربية الكثيرة.

لقد كان الخطاب فرصة جديدة أكد فيها الملك، بصفة غير مباشرة، موقف المغرب من تنظيم القمة العربية، التي اعتذر عن استضافتها، وذلك عندما نبه الملك إلى أن العمل العربي “لا يتم بالاجتماعات والخطابات ولا بالقمم الدورية الشكلية، أو بالقرارات الجاهزة غير القابلة للتطبيق، وإنما يتطلب العمل الجاد، والتعاون الملموس، وتعزيز التجارب الناجحة، والاستفادة منها، وفي مقدمتها التجربة الرائدة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي”.

القمة كانت مناسبة للملك للتأكيد على وعي المغرب المستمر بالمخاطر التي تهدد المنطقة، حيث جدد رفض المغرب القاطع المس بالوحدة الترابية والوطنية للدول في المنطقة، وفق مخطط يسعى إلى تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، وخص بالذكر كلا من سوريا والعراق وليبيا، مع ما يترتب عن ذلك من كوارث إنسانية تتجلى في الهجرة الواسعة، مشيرا إلى أن القمة الخليجية المغربية الأولى تنعقد في هذه الظروف الصعبة التي تمر منها المنطقة.

وعلى امتداد فقراته، حفل الخطاب الملكي بمواقف وإشارات قوية ومباشرة، إحداها تلك التي تحدث فيها الملك عن الربيع العربي بقوله: “فبعدما تم تقديمه كربيع عربي خلف خرابا ودمارا ومآسي إنسانية، ها نحن اليوم نعيش خريفا كارثيا، يستهدف وضع اليد على خيرات باقي البلدان العربية، ومحاولة ضرب التجارب الناجحة لدول أخرى كالمغرب، من خلال المس بنموذجه الوطني المتميز.”

إنها المرة الأولى التي يعبّر فيها الملك عن تقييمه لما سمي بالربيع العربي على الرغم من أن المغرب كان نموذجا استثنائيا في مواجهة تلك الموجة التي انطلقت من تونس، دون أن تمس باستقرار المغرب الذي استطاع أن يعبُر مرحلة دقيقة بأقل الخسائر الممكنة، بحيث كان خطاب 9 مارس 2011 الجواب المغربي على لحظة دقيقة كانت تمر منها المنطقة.

الخطاب الملكي كان، أيضا، لحظة للحقيقة في ما يخص التحالفات الدولية، سواء الثنائية أو متعددة الأطراف، هذه التحالفات التي تشكل واحدة من المجالات التي تتطابق فيها وجهة النظر المغربية مع التغييرات في وجهات النظر التي تعرفها بلدان الخليج، والتي تسير في الاتجاه نفسه. فقد حذر الملك من تحالفات جديدة [جارية] “قد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد. وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة، بل وعلى الوضع العالمي”، يؤكد الملك في خطابه.

ويمكن أن ندرج، في هذا السياق، التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية، وبصفة خاصة العلاقة مع إيران والمخططات التي تستهدف كلا من العراق وسوريا وليبيا وباقي دول المنطقة، في إطار الوفاء لمنطق تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ، والتلاعب في عدد من الصراعات الإقليمية بهدف جعل أمدها غير منظور، وترك بلدان المنطقة في صراعات دائمة.

هنا يقول الملك بلغة واضحة ومباشرة: “إن الوضع خطير، خاصة في ظل الخلط الفاضح في المواقف، وازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة والتحالف، ومحاولات الطعن من الخلف”.

وتساءل الملك في خطابه: “ماذا يريدون منا؟”، وأجاب بطريقة غير مباشرة: “إننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية. وأقصد هنا دول الخليج العربي والمغرب والأردن التي تشكل واحة أمن وسلام لمواطنيها، وعنصر استقرار في محيطها”.

الملك أعلن صراحة أن المغرب حريص على علاقاته الإستراتيجية التقليدية مع حلفائه، وهو هنا يقصد الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، لكنه أكد أن المغرب قد: “توجه في الأشهر الأخيرة نحو تنويع شراكاته، سواء على المستوى السياسي أو الاستراتيجي أو الاقتصادي”. وأعطى الملك مثالا على هذا التوجه الجديد بالزيارة التي وصفها بالناجحة إلى روسيا، خلال الشهر الماضي، والتي تميزت كما وصف الملك “بالارتقاء بعلاقاتنا إلى شراكة إستراتيجية معمقة، والتوقيع على اتفاقيات مهيكلة في العديد من المجالات الحيوية”، هذا التأكيد العلني هو إشارة سياسية واضحة، بل إن الملك أكد على أن المغرب سيواصل على النهج نفسه بتوجهه “لإطلاق شراكات إستراتيجية مع كل من الهند وجمهورية الصين الشعبية” في الشهور القليلة القادمة.

هذه التوجهات الجديدة على المستوى الاستراتيجي تتوافق، بصفة كاملة تقريبا، مع التوجهات الجديدة لبلدان الخليج، وبصفة خاصة المملكة العربية السعودية التي تبحث مع روسيا بناء علاقات نوعية والعمل على تقليص نقط الخلاف، خاصة في رؤية الحل بالنسبة لما يجري في سوريا؛ حيث إن هناك قناعة ثابتة لدى دول الخليج بأن العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية تعرف تغييرا بنيويا، وهذا الأمر لم يعد خافيا على أحد؛ فقد عبر الرئيس أوباما في حواره الشهير “عقيدة أوباما” عن وجهة النظر الأمريكية السلبية في أنظمة الحكم بدول الخليج العربي، كما أن الأمر يبدو أكثر سوء عند الاستماع لمواقف المرشحين لدخول البيت الأبيض، وبصفة خاصة مرشحي الحزب الجمهوري الذي كان على الدوام حليفا تقليديا لبلدان المنطقة، وهو ما يؤشر على تحول شامل لدى صناع القرار الأمريكيين.

الملك عبّر عن هذا المسار الجديد في اختيارات المغرب الإستراتيجية بعبارات قوية؛ حيث قال: “المغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد”، مطمئنا في الوقت نفسه بأن المغرب “سيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم”.

الخطاب الملكي شكل، كذلك، فرصة قوية لفضح المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية للمغرب في السنوات والأشهر الأخيرة، ووضعها في سياق ما يستهدف المنطقة من تحديات ومخاطر ومناورات، حيث قال الملك: “بعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي، ها هي اليوم تستهدف غربه، وآخرها المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية لبلدكم الثاني المغرب”، مشيرا إلى أن هذه الجهات تحاول “حسب الظروف، إما نزع الشرعية عن تواجد المغرب في صحرائه، أو تعزيز خيار الاستقلال وأطروحة الانفصال، أو إضعاف مبادر ة الحكم الذاتي التي يشهد المجتمع ا لدولي بجديتها ومصداقيتها”.

إن تزامن الخطاب الملكي مع تقديم بان كي مون تقريره إلى مجلس الأمن، ومباشرة هذا الأخير مشاوراته لصياغة قرار جديد، شكل فرصة للملك من أجل توضيح موقف المغرب من المنهجية الجديدة للتعاطي مع النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وذلك بقوله: “أصبح شهر أبريل، الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء، فزاعة ترفع أمام المغرب، وأداة لمحاولة الضغط عليه أحيانا، ولابتزازه أحيانا أخرى”.

الملك أكد أن الوضع خطير هذه المرة وغير مسبوق في تاريخ النزاع بلغ حد “شن حرب بالوكالة، باستعمال الأمين العام للأمم المتحدة كوسيلة لمحاولة المس بحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في صحرائه، من خلال تصريحاته المنحازة، وتصرفاته غير المقبولة بشأن الصحراء المغربية”، وهو تجديد وتأكيد لسلسلة المواقف المغربية القوية التي تم اتخاذها على خلفية الزيارة الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة إلى مخيمات تيندوف ومنطقة بئر لحلو والجزائر ونواكشوط.

لكن توقيت الخطاب له تأثير كبير على ما يمكن أن يخلص إليه مجلس الأمن، خاصة أمام بوادر تشبث المغرب بموقفه تجاه المكون المدني لبعثة المينورسو، وهذا ربما ما يفسر تصريحات وزير الخارجية الإسباني الذي ألمح إلى وجود أزمة عميقة داخل مجلس الأمن، قد تضعه أمام اختيار تقني بالتمديد لبعثة المينورسو لمدة شهرين، في انتظار اتفاق أعضاء مجلس الأمن على موقف يخص الوضعية الحالية لهذا النزاع المفتعل.

الملك لم يفوت فرصة انتقاد الأمين العام للأمم المتحدة الذي، وبعد كل هذه السنوات من ولايته ومن عمر النزاع، “يعترف بأنه ليس على إطلاع كامل على ملف الصحراء المغربية، مثل العديد من القضايا الأخرى، بل إنه يجهل تطوراته الدقيقة، وخلفياته الحقيقية”، وتساءل الملك: “ماذا يمكن للأمين العام القيام به، وهو رهينة بين أيدي بعض مساعديه ومستشاريه الذين يفوض لهم الإشراف على تدبير عدد من القضايا الهامة، ويكتفي هو بتنفيذ الاقتراحات التي يقدمونها له، ومعروف أن بعض هؤلاء الموظفين لهم مسارات وطنية، وخلفيات سياسية، ويخدمون مصالح أطراف أخرى دون التزام بما يقتضيه منهم الانتماء لمنظمة الأمم المتحدة، من واجب الحياد والموضوعية الذي هو أساس العمل الأممي”.

كانت هذه الفقرة من الخطاب أقوى انتقاد علني يوجهه المغرب للأمين العام للأمم المتحدة، ويزداد الأمر أهمية ورمزية عندما يصدر عن الملك، علما أن بان كي مون، في التقرير الذي قدمه إلى مجلس الأمن، اشتكى من انتقاد المغرب العلني له، فالخطاب الملكي في ضوء ذلك يعني عدم تراجع المغرب على مواقفه المسبقة من الأمين العام مع التأكيد، كما جاء في الخطاب ذاته، “أن المغرب ليس له أي مشكل مع الأمم المتحدة التي هو عضو نشيط فيها، ولا مع مجلس الأمن الذي يحترم أعضاءه، ويتفاعل معهم باستمرار؛ وإنما مع الأمين العام، وخاصة بعض مساعديه، بسبب مواقفهم المعادية للمغرب”.

لقد خلص الملك في موضوع الوحدة الترابية إلى التأكيد والتذكير “بأن قضية الصحراء هي قضية كل المغاربة، وليست قضية القصر الملكي لوحده”.

لم يفت الملك في خطابه التنبيه إلى الإرهاب كواحد من أكثر القضايا الخطيرة التي تمس أمن واستقرار المنطقة، فقد أكد الملك على أن “الإرهاب لا يسيء فقط لسمعة الإسلام والمسلمين، وإنما يتخذه البعض ذريعة لتقسيم دولنا، وإشعال الفتن فيها” .

وهو ما يقتضي فتح نقاش صريح وعميق بين المذاهب الفقهية، قصد تصحيح المغالطات، وإبراز الصورة الحقيقية للإسلام، والرجوع إلى العمل بقيمنا السمحة .

“إن الأمر لا يتعلق بقضية في دولة معينة، وإنما بحاجتنا إلى وعي جماعي بهذه التحديات، وبإرادة حقيقية لتجديد عقدنا الاستراتيجي مع شركائنا، بناء على محددات واضحة المعالم، تضبط علاقاتنا خلال العشريات المقبلة”، يؤكد الملك.

إن استعراض مجمل الأفكار والمواقف التي حفل بها الخطاب الملكي، تجعلنا نخلص – بحق- إلى اعتباره وثيقة للتاريخ وللحقيقة.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*