swiss replica watches
صرخة ما بعد الولادة – سياسي

صرخة ما بعد الولادة

فنجان بدون سكر:

بقلم عبدالهادي بريويك
أمام المستشفى العمومي، جلست امرأة تحمل جنينها وقد تحولت فرحتها إلى انتكاسة منكسرة بادية في عيونها، وقد تذكرت لحظة مخاضها الأخير أن الأوجاع والآلام التي كانت تشعر بها وتعاني منها لأمد طويل وأشهر طويلة، كما اعتقدت مثلها مثل جميع الأمهات، أنها ستزول مع زوال المخاض وحدوث الولادة، غير مدركة أن أوجاعها وآلامها قد بدأت منذ تخلصها من هذا المخاض وبدأت مع أول صرخة مولودها وهو يطل إلى هذا الوجود المجهول، وأنها ستبدأ رحلة جديدة غير التي عاشتها فترة حملها بكل انتظاراتها الحالمة.
جلست تستنجد العيون المارة من حولها وهم يهرولون بين الدخول والخروج من المستشفى العمومي وتحت صفير سيارات الإسعاف التي ترعب القلوب، علها تجد أحد يسندها أو يقول لها ألف مبروك أو يساعدها على شراء عبوة حليب صيدلانية،أو لقمة عيش دافئة وقد غادرها الزوج وتركها تائهة بين هذا الشرود وتحت ذل الزمن وإكراهات الظروف وتهرب الأهل والأحباب.
هكذا كانت السيدة جالسة وهي تتأمل ملامح وجه مولودها وتلفه بحنانها وعطفها ولطالما رأته في مخيلتها وحلمها وهو يكبر وينمو ويترعرع على أمل أن يبادلها ذات يوم الواجب ذاته ويملؤها بالعطف ويلفها بالحنان والرعاية وكثير من الاهتمام فيما تبقى من سنوات عمرها، كيف لاتصرخ أمام الجوع والحرمان والفقر والمرض؟ وأمام هجرة زوجها وكل هذا الفقدان واللوعة؟ وأمام كل هذا العذاب والجلد النفسي والقمع المادي، ليناطح صوت صراخها الصامت السحاب مخترقا غيوم السماء تحت شهقات القهر والمذلة.
هكذا كانت تردد بعد زفافها، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، مثلها مثل أي أم تسعى إلى إنجاب طفلها رغم قساوة الظروف، فكل ماكان يشغل بالها هو طفلها الآت إلى هذا العالم الموعود، وما عليها أن تفعله لتؤمن له حياة طبيعية على الرغم من قساوة الأحوال المادية، مصرة على الإنجاب لتحقيق أمومتها، ويزين حياتها ويعطر حدائق عمرها وتزغرد في ليلة عرسه وترى أحفادها يلهون أمام أعينها، ولم تكن تدرك مرارة الفقر إلا ما بعدما بدأت تسعى بكل طاقاتها الجسدية النحيفة وإمكانتها المادية المتردية تأمين عبوة حليب لطفلها الذي يصرخ ويموء وضرع الأم جاف من الحليب جفاف القلوب المارة من حولها.
الصورة أكثر مأساوية وأكثر حزنا، لهذا الواقع المتأزم الموبوء..تقدمت نحوها وسألت هل من مساعدة على القدر المحدود، فأجابت ..عبوة حليب وعلي العودة لأهلي قبل غروب الشمس فقد لفظتني مصالح المستشفى بعدما خرج طفلي للوجود، حاولت تدبير مصاريف التنقل لوجهتها القروية، البعيدة عن العاصمة الرباط، وقليلا من الأكل المتواضع وعبوتين من الحليب وعلى القدر المستطاع وهدية صغيرة في يد الطفل وتحركت من المكان.
ابتعدت وراقبت السيدة عن بعد، فوجدتها تبكي بشدة وبقوة وبحشرجة الحرمان والذل، ركبت طاكسي أجرة صغير وتوارت عن الأنظار وهي محملة بكل أنواع الحرمان والانكسار وبشدة تعانق مولودها الذي ولد في زمن الاندثار.
وهل يعلم معنى الألم إلا من اختبره؟ ولا أي ألم أقسى وألعن وأقبح من أن يعجز الإنسان عن إطعام إبنه؟ وأن يفشل في تأمين حاجاته الأساسية لأنه يواجه قدرا أرعن وضيعا وغير عادل أمام صور الحياة المليئة بالتناقضات.
أو لا يحق لتلك الأم أن تصرخ ليتخرق صوتها كبد السماء وحدود المدى في مجتمع تواطأت فيه الذئاب وتمسحت فيه الجرذان وتكالبت عليه الكلاب.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*