الأزمة السورية بين التدخل التركي والانكفاء الإيراني: شرق أوسط جديد يُصاغ في الظل

*الأزمة السورية بين التدخل التركي والانكفاء الإيراني: شرق أوسط جديد يُصاغ في الظل*

 

تشهد منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة تحولات جيوسياسية كبرى، تتمحور حول الصراع التركي-الإيراني في سوريا ودور القوى الإقليمية والدولية في إعادة تشكيل موازين القوى.

هذه التغيرات، التي تُعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة، تُبرز تقاطع المصالح الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل في مواجهة النفوذ الإيراني، فيما تواصل الولايات المتحدة التراجع عن دورها التقليدي كضامن للتوازن، وتغرق روسيا في أزمتها مع أوكرانيا، ما يترك المجال مفتوحًا لتركيا لتعزيز موقعها الإقليمي.

أصبحت سوريا نقطة ارتكاز لهذه التفاعلات، حيث أدى التدخل الإسرائيلي المتزايد إلى استهداف دقيق للبنية العسكرية الإيرانية وحلفائها الإقليميين كـ”حزب الله” و”الحشد الشعبي”.

هذه الضربات، سواء داخل سوريا أو في العراق ولبنان واليمن، نجحت في تقليص الوجود العسكري الإيراني وإضعاف شبكة نفوذه، ما أتاح لأنقرة فرصة جديدة للتوسع وملء الفراغ الناتج عن هذا التراجع.

في ظل هذا المشهد، يبرز دور الجولاني، الذي تحوّل من أحد قادة “داعش” إلى زعيم “هيئة تحرير الشام”.

هذا التحول البراغماتي يعكس مساعي تركيا لتوظيف القوى المحلية بما يتوافق مع أجندتها الإقليمية. فأنقرة لا تسعى فقط لإزاحة الأسد، بل لإعادة تشكيل النظام السوري وفق معايير تضمن لها نفوذًا طويل الأمد، وتستبعد النفوذ الإيراني الذي كان مسيطرًا منذ بداية الأزمة.

إن تعيين رئيس حكومة مدعوم من تركيا ليس مجرد خطوة إدارية، بل هو جزء من استراتيجية متكاملة لإرساء نظام جديد بواجهة محلية، لكنه يخدم المصالح التركية الأحادية، ويُعيد إنتاج وصاية جديدة على سوريا.

هذا الاستغلال التركي للظروف الإقليمية لم يكن ليتم دون التقاء المصالح مع إسرائيل.

فإسرائيل، التي كثفت هجماتها على المواقع الإيرانية، تسعى إلى ضمان أمنها القومي عبر تحجيم إيران وإبعاد خطر الميليشيات الموالية لها عن حدودها.

ومن هنا، فإن الضربات الإسرائيلية، التي أضعفت التواجد الإيراني، أتاحت لتركيا مساحة أكبر لتعزيز نفوذها دون مواجهة مباشرة.

هذا التنسيق غير المُعلن بين تركيا وإسرائيل يعكس إعادة ترتيب للأوراق في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع الأهداف ضد عدو مشترك، بينما يتم تجاهل مصلحة الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره.

على الجانب الآخر، تراجع الدور الروسي في سوريا نتيجة انشغال موسكو بحربها مع أوكرانيا.

هذا التراجع أدى إلى خلخلة موازين القوى، وترك النظام السوري وحيدًا في مواجهة التدخلات الإقليمية.

روسيا، التي كانت تطمح لبسط نفوذها في المنطقة عبر سوريا، أصبحت اليوم منشغلة بتأمين أمنها القومي أمام التصعيد الأوكراني المدعوم غربيًا.

هذا الفراغ الاستراتيجي الذي تركته روسيا، سمح لتركيا وإسرائيل بتوسيع نفوذهما دون رادع، في ظل غياب أي مبادرة أمريكية جدية لاحتواء هذه التحولات.

الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن أظهرت ترددًا واضحًا في التعامل مع هذا الملف، مما يعكس توجهًا نحو تقليل الانخراط المباشر في أزمات الشرق الأوسط. هذا التراجع الأمريكي منح القوى الإقليمية حرية الحركة، وأفسح المجال لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها.

في المقابل، فإن تحركات دونالد ترامب الأخيرة وتصريحاته تشير إلى رغبة واضحة في إعادة رسم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما يعزز التحالف مع دول الخليج وإسرائيل، ويحتوي النفوذ الإيراني والتركي في آنٍ واحد.

وسط هذه التفاعلات، تظل الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي في حالة من التحفظ والقلق.

غياب أي تصريحات رسمية بشأن ما يحدث في سوريا يعكس خشية من أن يؤدي أي تدخل غير مدروس إلى نتائج كارثية تُفاقم حالة الفوضى وعدم الاستقرار.

دول الخليج تدرك أن إعادة تشكيل سوريا وفق أجندات إقليمية قد يُعيد إنتاج نماذج من الفشل، كما حدث في العراق وليبيا واليمن، لذلك تفضل البقاء على الهامش بانتظار وضوح الرؤية.

إن ما يحدث اليوم يطرح تساؤلات كبرى حول مستقبل المنطقة: هل نشهد عودة مقنّعة لتنظيم “داعش” بأقنعة جديدة أكثر قبولًا، أم أننا أمام نظام وصاية إقليمي جديد يُعيد إنتاج الفوضى بطرق مختلفة؟

أم أن هذه مجرد مرحلة انتقالية متفق عليها ضمن ترتيبات إقليمية ودولية؟ الحقيقة أن كل المؤشرات تدل على أن المنطقة مقبلة على نظام جديد يتسم بالبراغماتية الشديدة وتبادل النفوذ بين قوى إقليمية، دون اكتراث حقيقي لمصالح الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والاستقلال.

في النهاية، يبقى الصراع التركي-الإيراني في سوريا نموذجًا للتنافس الإقليمي الذي يُعيد تشكيل الشرق الأوسط.

إنه صراع هيمنة يتخفى وراء شعارات مكافحة الإرهاب وإرساء الاستقرار، لكنه في جوهره يُكرّس مصالح القوى المتدخلة، بينما تظل الشعوب تدفع ثمن هذه الصراعات، في انتظار لحظة تضع فيها العدالة والحرية موضع التطبيق، لا الشعارات.

*فيصل مرجاني*

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*