مبروك علينا صباغة القبور !

فنجان بدون سكر:

مبروك علينا صباغة القبور!”

بقلم عبد الهادي بريويك

في إنجاز تاريخي جديد يُسجّل في دفاتر العبقرية الحكومية، قام معالي الأمين العام لحزب الاستقلال ووزير التجهيز والماء (ووزير صباغة الآخرة حاليًا)، بشدّ الرحال بكل فدائية نحو مقبرة في منطقة الريبعة بجماعة سيدي يحيى زعير، ليُعطي إشارة الانطلاق لمشروع عملاق: “صباغة المقبرة”.

نعم، لا تُفرك عينيك… لا تبحث عن خبر أهم… هذه هي النقطة المضيئة في سياسة الدولة التنموية.

حين تفشل الدولة في صباغة المدارس، والمستشفيات، والطرقات، وحتى الوجوه، تتجه للقبور، فهي الوحيدة التي لن تشتكي ولن تنظم وقفات احتجاجية.

ووسط تصفيقات حارة من بعض الحاضرين (ربما لأنهم ظنّوا أنه سيتم توزيع قبور بالمجان)، أعلن الوزير بداية هذا المشروع الجبّار، الذي سيتطلب حتماً خبرات لوجيستيكية فائقة، وطلاء مقاوم للحرارة، وربما حتى لجنة لتحديد درجات الألوان المناسبة للمتوفين. (هل نختار الأبيض للذين ماتوا على نية طيبة؟ أم الرمادي لمن مات وهو ينتظر وظيفة؟).

المهم أن الوزير لم يبخل على نفسه بمشقة التنقل، وقدّم تضحيات جليلة ليقف بنفسه على بداية طلاء أحجار لا حياة فيها، في حين تتصدّع جدران المستشفيات، وتذوب طرق القرى مع كل نقطة مطر.

 

نعم، لم تقرأ خطأ. لا نتحدث عن مشروع لتوسيع شبكة المياه أو لإصلاح الطرق المهترئة أو حتى لتأهيل مدارس منهارة، بل عن طلاء قبور الأموات.

أليس هذا هو أولى أولويات الشعب المغربي؟

ركب الوزير سيارته الفارهة، تحرّك الموكب، شُدّت ربطات العنق، وانتُزعت الابتسامات البروتوكولية من الوجوه، كل هذا فقط ليُعطينا نحن – نحن الأحياء الغارقون في الوحل – بشرى انطلاق طلاء بعض الأحجار التي لا يشعر أصحابها لا بالألوان، ولا بالوعود، ولا بالوهم.

صفّق من صفّق، وصوّر من صوّر، ووقف الوزير على أسوار المقبرة كفاتح منتصر، وكأنّه دشن ميناءً عالمياً أو أطلق قمراً صناعياً.

هل هذه هي أحلام الحكومة؟ هل أصبح الاستثمار في دهان القبور إنجازاً يُحتفى به؟

أين نحن؟ في دولة تُبنى للمستقبل؟ أم في مسرحية عبثية حيث المسؤولون يزغردون فوق جماجم الأمل؟

ما هذه الحكومة التي لا تتذكر المواطن إلا إذا كان ميتاً؟ كيف لحكومة أن تفشل في صيانة حياة الأحياء، ثم تأتي بكل وقاحة لتجمّل موتاهم؟ ألا يخجل الوزير من صباغة قبور بينما شباب المناطق نفسها يُدفنون أحياءً في عطالة وحرمان؟

لو كان في الحكومة ذرّة خجل، لكان أول مشروع تُطلقه هو صباغة وجوهها بالحياء.

هذا المشهد ليس نكتة، بل واقع.

واقع مرير، فيه يُكافَأ العبث، وتُصفّق الرداءة، ويُصفّر على الخراب.

فشكراً لمعالي الوزير… على إهانة الأحياء، وتجميل الموت.

 

“المقابر أولًا… والناس بعد الموت”.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*