swiss replica watches
نخبة اليسار في المغرب والمسألة الديمقراطية عبد الرحيم بوعبيد نموذجا – سياسي

نخبة اليسار في المغرب والمسألة الديمقراطية عبد الرحيم بوعبيد نموذجا

حسام هاب
ارتبط سؤال الديمقراطية في المغرب ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب الراهن سواء ما تعلق بمرحلة الحركة الوطنية إبان زمن الحماية أو خلال مرحلة بناء المغرب المستقل التي تميزت بتعدد الأزمات السياسية والتداخل في العلاقة بين المؤسسة الملكية والأحزاب. وهو السؤال الذي ظل يطرح باستمرار طيلة سنوات الاستقلال بصيغة محددة: لماذا لم نلج زمن الديمقراطية عند حصول المغرب على استقلاله سنة 1956؟. وفي هذا السياق شكل الفعل السياسي لعبد الرحيم بوعبيد (1920-1992) مرجعية تاريخية للتقصي والتساؤل لدى الفاعلين السياسيين والباحثين حول محطات متعددة من تاريخ المغرب الراهن، خاصة فيما يتعلق بأسئلة الحاضر حول المسارات السياسية التي يعرفها المغرب منذ الانفتاح السياسي والحقوقي بداية التسعينات من القرن الماضي.
من هنا تستند قراءتنا في إشكالية الديمقراطية خلال مرحلة مغرب الاستقلال على دراسة وتحليل آراء ومواقف عبد الرحيم بوعبيد حول المسألة الديمقراطية في المغرب المستقل، مجسدة في خطابه ورؤيته الخاصة لبناء نظام سياسي ديمقراطي باعتباره رجل دولة ساهم في تدبير الشأن الحكومي والديبلوماسي، وزعيم سياسي عمل في واجهة العمل الحزبي. فبعد أن كان أحد الوجوه البارزة في معركة المطالبة بالاستقلال فإنه قد أصبح أيضا من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في مجرى الأحداث خلال مرحلة الاستقلال، والتي دافعت عن الديمقراطية في المغرب من خلال إرساء نظام ملكي دستوري ديمقراطي، وهو ما تجسد في قيادته لحزبي الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لاحقا حيث نقلهما من الاختيار الثوري إلى النضال الديمقراطي، وعبر عن مفهومه للديمقراطية ورؤيته لها من خلال مواقفه من المؤسسة الملكية، وأيضا عبر حواراته وخطاباته ومذكراته وأدبيات الحزب التي ساهم فيها ولعل أبرزها «استراتيجية النضال الديمقراطي» التي اختارها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 كخط سياسي مرحلي للمساهمة في التغيير الديمقراطي من داخل المؤسسات المنتخبة.
كانت مواقف عبد الرحيم بوعبيد من المسألة الديمقراطية واضحة ومحددة في برنامج سياسي لحزبه خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني (1961-1999) الذي خلف أباه الملك الراحل محمد الخامس المتوفى سنة 1961، حيث دخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مسارا معقدا أنتجته موازين القوى الجديدة التي بدأت في البروز بالخصوص منذ صيف 1959، وهي المواقف التي عبر عبد الرحيم بوعبيد في تصريح أدلى به بصفته عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية لجريدة “أفريك أكسيون” الأسبوعية الصادرة في تونس باللغة الفرنسية، بين فيه وجهة نظر الحزب حول الوضعية السياسية الراهنة مباشرة بعد تولى الملك الحسن الثاني عرش المغرب، وقدم بوعبيد في هذا التصريح برنامج حكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الشق السياسي إذا ما دعي قادته إلى السلطة قائلا “إن المهمة الأولى وأكرر ذلك هي إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وانتخاب مجلس تأسيسي وحكومة مسؤولة، ولابد للمغرب أيضا من إدارة تحدد الأهداف الواضحة وتستطيع أن تعطي الأوامر وأن تراقب تنفيذها بصرامة، يجب وضع حد لحكم البقشيش والرشوة. إنه اختيار سياسي يجب القيام به بين الرجال والأساليب، فإذا لم تنظم الدولة وإذا استمرت في طريق السهولة، وإذا اكتفت بإحداث تنظيم رأسمالي من شكل القرن التاسع عشر فإن البناء سينهار ربما في ظرف سنتين أو خمس سنوات” .
وفي تقريره السياسي المقدم إلى المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في ماي 1962 أدان عبد الرحيم بوعبيد بشدة سياسة الإدارة الرامية إلى إفراغ المؤسسات المنتخبة (الجماعات القروية والبلدية، غرف التجارة والصناعة) من محتواها ومصادرة صلاحياتها. كما نبه في تقريره إلى خطورة التوجه الآخذ في التكرس وهو توجه إقامة نظام حكم لاديمقراطي تهيمن فيه السلطات الأمنية على ما عداها مما يقود البلاد نحو وضع سياسي يتسم بتفسخ المسؤوليات على كافة المستويات وتحلل المرافق العمومية وانحراف وتعفن الإدارة . ويعلن عبد الرحيم بوعبيد في تقرير بشكل واضح وصريح “أن الهدف المتوخى من طرف الحكم المطلق هو التدليل على أن تجربة المؤسسات المنتخبة فاشلة وأن النظام الذي يناسب البلاد سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد المحلي هو نظام الحكم المطلق…” .
شكلت سنة 1963 زمنا صعبا في البيت السياسي المغربي استعملت فيه بعض القيادات الاتحادية خطابا قويا ضد حملات القمع الموجهة ضد الحزب من طرف النظام ، وهو ما برز في الحوارات الصحفية لعبد الرحيم بوعبيد خلال هذه المرحلة الذي اعتبر الصحافة الدولية واجهة أخرى للتعبير عن مواقفه من الوضع السياسي في المغرب ورؤيته للديمقراطية في وقت احتد فيه الصراع بين القصر والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأصبحت بلاغات الحزب وتصريحات قياداته تتسم بالقوة اتجاه النظام خاصة بعد تأسيس حزب “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك)” في 20 مارس 1963، وهو الحدث الذي اعتبره قادة الاتحاد الوطني مؤشرا على تحول في سياسة القصر نحو تحييد الحزب من الساحة السياسية . وفي هذا السياق يأتي الحوار الذي أجرته مجلة “Jeune Afrique” مع المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد بتاريخ 8-14 أبريل 1963 حيث شكل الحوار فرصة عبر من خلالها بوعبيد عن مواقفه من التطورات السياسية التي عرفها المغرب منذ تولي الملك الحسن الثاني عرش المغرب والمتمثلة في التحول نحو ملكية مطلقة وتركيز الحكم والسلط في يد فاعل سياسي واحد هو الملك، فقد اعتبر بوعبيد وبن بركة أن “خصمنا الحقيقي هو الذي يرفض الاضطلاع بالمهمة التي هي مهمته الطبيعية أي مهمة الحكم (بفتح الكاف) حيث يتعين على الحكم أن يضع نفسه فوق الأحزاب ولكن الذي نشاهده الآن هو أن الحكم تحول إلى رئيس كتلة من المصالح ونعني بذلك الملك” .
وفي سؤال للصحفي كمال جواد لكل من بوعبيد وبن بركة عن السياسة التي ينهجها القصر أجابوه “إنها تبدو واضحة تقريبا وهي تقوم على متابعة العمل الذي يقوم به القصر منذ الاستقلال أي تفتيت الحركة الوطنية إلى مجموعة أحزاب بحيث لا يكون مواجها لخصم قوي. وأن الجبهة التي أنشئت مؤخرا تهدف بالطبع إلى جمع عدد من الرجال المرتبطين بالحكم (…) وبالجملة فهذا النظام الذي يدعي في الدستور الذي منحه لنفسه بأنه يمنع قيام الحزب الواحد هو في الحقيقة نظام يحاول إقامة حزبه الواحد أي حزب الإدارة والشرطة (…) وإذا ما نجح في ذلك فستكون تلك بداية نظام فاشستي حقيقي” . وعن سؤال فيما إذا كان الملك يرغب ليس فقط في وجود نظام تعدد الأحزاب بل أيضا الاستفادة من هذا النظام، كان الجواب لبن بركة وبوعبيد كالتالي “…إن الحركة الوطنية قد وقعت ضحية انقلاب رجعي نموذجي في أبريل 1960 وقد دفع ولي العهد الملك محمد الخامس إلى أن يجعلنا نغادر الحكومة على غير رغبة منا، بينما كان هناك برنامج يطبق وكانت هناك التزامات واضحة قد اتخذها الطرفان واحترمناها من جانبا دائما. أما معارضة حكومة عبد الله إبراهيم فكانت تتمثل في ولي العهد الذي كان يسير تلك المعارضة داخل الحكومة، وكان الضغط الذي مارسه على الملك الراحل محمد الخامس ضغطا قويا بما فيه الكفاية ولم يكن ولي العهد يثق بنا، وكان يقول لوالده بأننا نريد إعادة النظر في مبدأ الملكية” .
وعبر بوعبيد في الحوار رفقة بن بركة عن الوضع السياسي للمؤسسة الملكية آنذاك قائلا “… في سنة 1953 كان مانديس فرانس ثم إدغار فور يقولان لنا وهما يحاولان معنا أن نتنازل عن شرطنا الأولي للمفاوضة شرط تحرير الملك: ولكن لماذا تلحون في إعادة الملك إلى العرش؟ وهنا أيضا ساندنا الملكية ولكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحا في أذهان الجميع هو أن ننشئ ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا لاستمرار المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة. ولكننا في الواقع قد وصلنا إلى شيء آخر فقد منح الدستور وترك للملك السلطة الحقيقية كلها وقد يؤدي ذلك إلى وضع أسوأ” .
وفي سؤال حول إمكانية وجود حل وسط بين الحزب والنظام القائم أجاب بن بركة وبوعبيد بالقول “هناك حل لا يزال ممكنا ولكنه يتطلب توفر عدة شروط. فأولا لا يمكن في الظروف الراهنة أن نشارك في الحكم إلا على أساس تعاقد محدد واضح تحدد بموجبه سلطات كل من الطرفين ويحدد برنامج العمل فإذا كانت هناك موافقة على هذه النقاط فعندها تصبح المشاركة في الحكم ممكنة. ويجب في الظروف الحالية التي هي ظروف الانتخابات أن تحترم قواعد اللعبة احتراما كاملا فإذا كان النظام مستعدا لاعتبارنا كحزب معارض في نظام ديمقراطي، فإن الانتخابات يجب أن تجرى بشكل طبيعي. ولكن هذا يتطلب ضمان حرية الاقتراع وصدق نتائجه. وهذه الضمانة لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا ترأس جهاز تمثل فيه القوات الشعبية مراقبة الانتخابات، وإلا إذا أشرف هذا الجهاز على المحافظة على النظام خلال تلك الانتخابات”.
كانت الانتخابات محطة سياسية أخرى تعكس مدى الصراع المحتدم بين القصر والاتحاد الوطني للقوات الشعبية حول إشكالية دمقرطة النظام السياسي خلال مرحلة الستينات، وهو ما تجلى في الاجتماع الذي عقده أعضاء اللجنة المركزية للحزب والنواب الاتحاديون في البرلمان وكتاب الأقاليم بمقر الكتابة العامة للحزب بالدار البيضاء يوم 16 يوليوز 1963 لدراسة الموقف الواجب اتخاذه في موضوع الانتخابات البلدية، وكان موقف بوعبيد خلال هذا الاجتماع يعكس حالة التوتر التي سادت الساحة السياسية آنذاك. فقد ركز خلال كلمته في الاجتماع على قضية النضال من أجل الديمقراطية، كما شرح بوعبيد خلال الاجتماع الوسائل التي ستعتمد لتزوير الانتخابات خصوصا في البادية حيث رفضت كل الترشيحات باستثناء لوائح جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، وانتهى بوعبيد في الأخير إلى أن الانتخابات المقبلة سيستفيد منها الحكم فقط . كان هذا الخطاب يحمل في طياته الجواب السياسي للمرحلة، فقد انتهى عبد الرحيم بوعبيد بوعبيد إلى أنه لا مفر من المواجهة مع النظام ونستخلص من كلمته التي ألقاها أمام اللجنة المركزية الموسعة أن هناك مخططا لإقصاء الاحزاب السياسية في البلاد، وهو ما يؤكده تعدد الإعتداءات على الأملاك الحزبية وعلى قادة الاتحاد، وخاصة محاولة اغتيال المهدي بن بركة في نونبر 1962، إضافة إلى الاعتقالات الجماعية لقيادات ومناضلي الحزب مباشرة بعد اجتماع 16 يوليوز 1963 والتي سميت في الأدبيات الاتحادية ب “المؤامرة”.
عرفت فترة الستينات تحولا جذري في الخطاب السياسي لعبد الرحيم بوعبيد ومواقفه اتجاه المسألة الديمقراطية في مغرب الملكية المطلقة، فرغم أن بوعبيد وظف في خطاباته مفردات قوية ضد النظام، فإنه عمل بشكل متواز على إبقاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في دائرة العمل السياسي الواضح والشرعي باعتباره أداة حزبية للنضال من أجل الديمقراطية وهو ما تجلى في محافظته على قنوات الاتصال بالقصر للمطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين والتداول في المشاكل السياسية التي تعرفها البلاد، حيث طرحت على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مسألة الدخول في حكومة إئتلاف وطني وكان جواب الحزب حاسما “فالافراج عن المعتقلين يعتبره الاتحاد كمبادرة تدل على استعداد لتحسين الجو السياسي وفتح صفحة جديدة لعلاقة الاتحاد مع الحكم، أما المشاركة في الحكم فتكون مشكلا خاصا يتطلب تحديد برنامج واضح وشروطا دقيقة لمعالجة المشاكل القائمة” . إلا أن انتفاضة 23 مارس 1965 واختطاف واغتيال المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965، والتصريحات الرسمية التي تلت هذه الأحداث أبعدت كل مبادرة للإصلاح السياسي والدستوري وأدخلت البلاد في حالة استثناء دامت خمس سنوات.
تعد المذكرة التي كتبها عبد الرحيم بوعبيد نيابة عن اللجنة الإدارية للحزب وأرسلها إلى الملك الحسن الثاني بتاريخ 14 أكتوبر 1972 خلاصة لموقف الرجل اتجاه المسألة الديمقراطية خلال هذه المرحلة، وتكتسي هذه المذكرة أهمية كبيرة في سياق أنها كتبت جوابا على مذكرة الملك التي بعثها لبوعبيد يوم 23 شتنبر 1972 عقب محاولة الانقلاب العسكري الثانية (انقلاب الطائرة) في نفس السنة. فبوعبيد لم يعتبر ما وقع “حادثة سير” بل “إن هذه الوضعية تجمل في أزمة ثقة، فالشعب المغربي… قد فقد الثقة في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي ساد البلاد منذ أزيد من عشر سنوات الذي يتحمل وحده مسؤولية الوضعية المتدهورة التي يعيشها ويعاني منها الجميع. وليس هناك من سبيل لإعطاء نوع من الاعتبار لخطب ووعود الحاكمين إلا بتغيير جذري لمفهوم الحكم نفسه ولمختلف مراكز التقرير. فهذه الخطب والوعود أصبحت تستقبل بحذر بل إنها تساهم في إعطاء الجماهير المستغلة وعيا أكثر وضوحا، بأن هذه المناجاة المكررة بأشكال مختلفة حسب الظروف لم تعد تستحق أي اعتبار (…) ومع ذلك فقبل محاولتي الانقلاب (10 يوليوز 1971 و16 غشت 1972) بكثير كانت البوادر الأولى للأزمة ملموسة في كل مكان (…) انطلاقا من هذا التحليل يعتبر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن نظاما يقوم على الديمقراطية السياسية الحقة ولو في بلد مختلف، هو الضمان الوحيد لبناء ديمقراطية اقتصادية واجتماعية” .
من أهم القرارات التي اتخذها عبد الرحيم بوعبيد خلال هذه المرحلة إشرافه على عملية التحول الجذري التي مست الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بداية من اجتماع اللجنة الإدارية يوم 30 يوليوز 1972 واتخاذ القرار بتسيير الحزب والانفصال عن الاتحاد المغربي للشغل ، وهو ما شكل مسارا جديدا داخل الحزب لتوضيح خطه السياسي والإيديولوجي وإعادة بناءه تنظيميا، وتغيير اسم الحزب واتخاذ استراتيجية النضال الديمقراطي كخط سياسي جديد للحزب الذي سينبثق عن المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975 وهو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي اعتبره عبد الرحيم بوعبيد الأداة الحزبية المناسبة للمرحلة السياسية الجديدة التي دخلها المغرب مع بداية السبعينات، للنضال من أجل بناء ديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
III. انخراط عبد الرحيم بوعبيد في “المسلسل الديمقراطي” (1975-1992):
1. المؤتمر الاستثنائي للحزب سنة 1975 وتبني الاختيار الديمقراطي:
شكلت هذه المرحلة التاريخية فرصة بالنسبة لعبد الرحيم بوعبيد لتوضيح الخيار الاستراتيجي للحزب خاصة بعد تبني قرارات 30 يوليوز 1972 التي اتخذها الحزب للقطع مع كل مظاهر الجمود والخلط، والعمل على أساس الوضوح الإيديولوجي والتنظيمي باعتماد مبدأ استراتيجية النضال الديمقراطي التي كان عرابها عبد الرحيم بوعبيد، خصوصا وأن رفع شعار توحيد الجبهة الداخلية من أجل استكمال الوحدة الترابية قد عجل بتليين مواقف الحزب وترتيب أولوياته تزامنا مع انسياق النظام وراء اتخاذ إجراءات هادفة إلى تطبيع المناخ السياسي، وإلى النزوع الظاهري نحو تطبيق مبدأ إقامة مؤسسات دستورية ذات مصداقية كما عبر عن ذلك الخطاب الملكي لعيد العرش سنة 1974 . وفي هذا السياق السياسي انعقد المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أيام 10-11-12 يناير 1975، والذي مثل في أدبيات ووثائق الحزب مرحلة تحول إن لم نقل قطيعة مع وضعية الحزب السابقة الفكرية والسياسية والتنظيمية في نظر معظم الاتحاديين، لأنه تبنى فكرة الاختيار الديمقراطي كموقف استراتيجي لنشاطه السياسي .
تكفل التقرير السياسي الذي قدمه عبد الرحيم بوعبيد والمعنون ب “الخط السياسي المرحلي” بتوضيح الاختيار الديمقراطي على المستوى السياسي، حيث ألم التقرير بالحياة الداخلية للحزب، وبالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، وتحولات النظام السياسي الوطني والعالمي. وفي الجانب المتعلق بموقف بوعبيد من المسألة الديمقراطية خلال المؤتمر فالتقرير يشير إلى الديمقراطية التي تم التلاعب بقاعدة إقامتها الأساسية: الانتخابات النزيهة والشفافة، وهي واقعة – يؤكد التقرير- يلزم دوما الاستمرار في فضحها من داخل التشبت بالشكل الديمقراطي .
استعرض بوعبيد في التقرير سمات الاقتصاد الوطني المتأزم وأن الخروج من الأزمة يبقى رهينا ب “التخطيط الديمقراطي والحلول الجذرية” ، كما حدد الآليات السياسية لذلك بسلوك المنهج الديمقراطي وناقش من شكك في هذا المنهج قائلا “فهناك من يدعي بأن هذه الديمقراطية ليست إلا ديمقراطية شكلية. لكن ليسمحوا لنا بالجواب على اعتراضهم بأن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلادنا لا يمكن أن تقارن بهياكل الأقطار الغربية التي استقرت فيها الرأسمالية وتقدمت أكثر من قرن. فالديمقراطية السياسية ونقصد بها ديمقراطية أصيلة لا يمكن إلا أن تعبر وبالضرورة عن إرادة التغيير، عن الطموح للوصول إلى مجتمع أكثر عدلا. فداخل المجالس المنتخبة سيكون النقاش محددا حول المشاكل التي تضعها الفلاحة، حول التعليم، حول البطالة والتشغيل، حول توزيع المداخيل… وهي المشاكل التي تشغل بال الأغلبية الساحقة للشعب المغربي، وهذا هو السبيل الوحيد لبلوغ الديمقراطية الاقتصادية. وجانب آخر من الناس قد يتهموننا عن حق بأننا مغفلون لا نستخلص العبرة من الماضي مضيفين بأن تزوير الانتخابات العامة سواء في 1962-1963 و1970 يغدو كافيا لجعلنا نبتعد عن هذه الانتخابات” .
ويذكر التقرير السياسي بالمذكرة الحزبية المؤرخة ب 14 أكتوبر 1972 التي كانت بمثابة جواب على الخطاب الملكي في شتنبر 1972 حيث جاءت متضمنة في التقرير للتأكيد على الاختيار الديمقراطي للحزب مع إضافة شروط جديدة تفرضها المرحلة وهي:
تصفية الجو السياسي وذلك بالتصديق على النصوص المقررة للعفو العام الشامل.
إلغاء النصوص التشريعية المقيدة للحريات العمومية والخصوصية، وبصفة خاصة التدابير الإدارية التي تعرقل وتقمع حرية التعبير.
إلغاء الظهائر والقرارات القمعية التي كان قد تم التصديق عليها خلال عهد الحماية والتي ظل العمل جاريا بها إلى الآن .
وقد أثار عبد الرحيم بوعبيد في كلمته الختامية بعد اختياره كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الدور المنوط بالحزب للسير نحو الهدف المرسوم وهو إنشاء ديمقراطية اقتصادية واجتماعية وثقافية والنضال الديمقراطي من داخل المؤسسات. وقال بخصوص علاقة الخط الإيديولوجي بالسياسي “فأصبح القرار فيما يرجع للخط السياسي قرارا مستنتجا من انطلاق وتفكير مذهبي، ومعنى ذلك أن الخط السياسي لابد أن يكون له ارتباط بالاستراتيجية العامة للحزب التي ترمي إلى إنشاء مجتمع جديد عادل ديمقراطي واشتراكي وعن طريق الديمقراطية” . وأضاف “وفي الخط السياسي دائما…إننا متشبثون بمذكرة أربعة عشر أكتوبر 1972، ومازال الوضع يتطلب نفس التدابير. ونحن نقول إننا إذا أردنا أن نخرج من طور إلى طور آخر: طور الديمقراطية الصحيحة، يجب أن يكون العفو العام الشامل لكل المعتقلين السياسيين” .
باحث في التاريخ الراهن-
جامعة محمد الخامس الرباط

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*