swiss replica watches
سعيد بنكراد: المدرسة المغربية متخلفة و الذين يفكرون في الإصلاح لا علم لهم بواقع الجامعة المغربية – سياسي

سعيد بنكراد: المدرسة المغربية متخلفة و الذين يفكرون في الإصلاح لا علم لهم بواقع الجامعة المغربية

المصدر: جريدة المساء

يحظى الناقد والمترجم والسيمائي سعيد بنكراد باحترام كبير في الأوساط الأدبية والأكاديمية، لما راكمه من اشتغال جِدّي ومضنٍ مكّنه من أن ينحت بعمق بصمة خاصة في الدرس السيميائي بالجامعة المغربية ويفتح مجاله على قضايا جديدة خاصة ما يتعلق بالصورة والبصري عامة، ثم بما خلّفه للمكتبة المغربية والعربية من إصدارات مهمة تربو عن 36 كتابا بين ترجمة وتأليف. ناهيك عن عصاميته في الحفاظ على انتظام “مجلة علامات” المتخصصة في الدرسات السيميائية، والتي مازالت علامة صامدة في الحقل الثقافي المغربي منذ عددها الأول سنة 1994.

 مَسَار فضَّلَ فيه بنكراد أن يظل بعيدا عن الأضواء غير تلك التي تمنحها المعرفة، ومكتفيا باصطياد فرائد النقد الحديث وترجمتها للعربية خاصة ما يتعلق بمجال تخصصه، ووفيّا بالقدر ذاته لمطاردة المعنى واستنطاق العلامات بحس يؤمن بقدرة السيميائيات على تفكيك الأنساق الإيديولوجية والثقافية الموَجّهة لسلوك الناس.

ليس من العسير أن تصادفه بين الفينة والأخرى في هذا المقهى أو ذاك وسط العاصمة الرباط، غير صَادٍّ حَواسَّهُ عن ضجيج الحياة، حيث يستطيع باحترافية أن يمارس عزلته المعرفية وسط صخب المحيط، عبر الوفاء لطقسه اليومي في القراءة كأسلوب حياة. القراءة التي هي عنده قراءات متعددة بتعدد المعنى والرؤى في هذه الحياة.

في هذا الحوار نراجع مع سعيد بنكراد بعض انشغالاته المعرفية والبحثية، ونتعرف على حيثيات إصداراته الأخيرة، كما نحاول تقصي مواقفه من بعض المستجدات التي تحظى بالاهتمام.

حاوره: محمد عبد الصمد الإدريسي

1-لننطلق من الحاضر القريب.. انهممتَ مؤخرا بموضوع الوجود الافتراضي وهو ما يمكن ملاحظته من خلال إصدارك لترجمتين على التوالي،  الأول يتعلق بكتاب “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود” والثاني “الإنسان العاري”.. ما سر هذا الاهتمام بالموضوع من قِبَلِكم كسيميائي؟

ج-لا سر في الأمر، فجزء كبير من اهتماماتي واهتمامات السميائيات عامة ينصب على الصورة.

فما يتحدث عنه الكتابان هو في الجوهر الشكل الجديد الذي يُبنى من خلاله معنى الأشياء والكائنات، فالحضور الافتراضي في حياة الناس اليوم أقوى من حضور الواقع فيها. يتعلق الأمر بإسقاط عالم يتطور على هامش الواقع، إنه يسكن الصورة وحدها. وتلك هي المفارقة، فالصورة لا تدل على شيء ما، بل تدل على غيابه. وضمن هذا الغياب تتسرب الكثير من الدلالات التي نستعيد من خلالها نمطا جديدا في الحياة يمارس في “الوهم”، أي فيما يمكن أن تسلمه الصورة أو توهم به. وقد شرحت هذا التداخل بين الواقعين بشكل موسع في مقدمة كتاب” أنا أوسيلفي”.

وكنت قد كتبت مقالا عن السيلفي قبل ظهور هذا الكتاب (ماي 2016)، وكان في الأصل الدرس الافتتاحي الذي ألقيته في المعهد العالي للإعلام والاتصال في نوفمير 2015 ، وفيه تحدثت عن الرغبة التي تستوعبها اللحظة “الأبدية” في انفصال عن دفق زمني هو الحاضن للحلم الإنساني. فما هو أساسي في بناء المعنى ليس المعيش بل صورته، فتأمل البحر وحيدا لا قيمة له إذا هو لم يُصور ويُلقى في الشبكات الاجتماعية ويحصل على الكثير من الجيمات.

2-ربما هذا الذي سميته “الوهم” والذي تخلقه الصورة أصبح وهما أكثر صدقا عند الناس من أي شيء آخر؛ بل يعيشون فيه أكثر من عيشهم في الواقع الحقيقي. هل ترى أن هذا من أخطر الآثار التي خلفتها الثورة الرقمية اليوم؟

ج-يبدو لي أن الأمر كذلك.

فالافتراضي لا يقدم حياة حقيقية، إنه يستبدلها بمجموعة من الصور يتبادلها الناس في مواقع التواصل الاجتماعي. فاللحظة، كما عبرت عن ذلك سابقا، لا تُعاش بل يجب أن تُصور، فلا أهمية للفعلي، فقيمته مستمدة من الافتراضي.

ولن أذيع سرا ، إذا قلت إن هذا الأمر يشكل خطورة على الناس من جميع الجوانب. هناك انشطار في هوية الذات وكينونتها: ما يقال في الافتراضي وما يُعاش حقيقة. إن الواقع مركب ومعقد ويعج بالمفاجئات وغير المتوقع والنسبي والعفوي، إنها الحياة بكامل النقصان فيها، أما الافتراضي فتتحكم فيه الصنعة، فالناس يقولون ما يود سماعه الآخرون أو رؤيته، فهم يبحثون عن مثيلهم ليكون صديقا. إنهم يلغون (يقتلون) المختلف الذي لا يشبههم. وتلك خطورة الحياة الافتراضية. وهذا ما يستهوي اليوم طلبتنا وتلاميذنا ويجعلهم ينصرفون عن الكتاب إلى الصورة، بكل ما يعنيه ذلك من تراجع لدور اللغة في حياة الناس. والكثيرون لا يدركون خطورة هذا التراجع، ذلك أن المناطق التي تنسحب منها اللغة يستوطنها العنف. إننا لا نعرف العالم بالبصر بل نُدرك سِرَّهُ بالكلمات التي تعيد خلقه وتحوله إلى رؤى.

3- هل نفهم من هذا أن ما تكسبه الصورة اليوم يأتي على حساب اللغة، وإذا استحضرنا أن ما يهدد اللغة ليس الصورة وحدها وإنما هذه الهجانة اللغوية التي باتت تحيط بها من كل جانب؛ في الشارع وفي وسائل الإعلام وفي الكتب المدرسية التي بدأنا نسمع عن سياسات تدريج قادمة نحو المناهج، في نظرك ما مدى الخسارة أن تفقد اللغة مواقعها في حياة الناس؟

ج-لا يتعلق الأمر بالمفاضلة بين الصورة واللغة.

فهما يشكلان نمطين مختلفين في التعبير عن كينونة الإنسان، كما تعبر عن نفسها في العقل وفي المرفقات الانفعالية ( نحيل هنا على الزوج الشهير الذي تحدث عنه أندري لورا -غورهان الذي يجمع بين الوجه اللغة وبين اليد الأداة).

ولكن عندما تحل الصورة محل اللغة؛ فإن الأمر يختلف، ففي هذه الحالة ننتصر للانفعال ضدا على عقل يُنظم التجربة استنادا إلى لغة تُبنى في المفاهيم. أما المستوى الثاني من السؤال؛ فيشير إلى ما هو أكثر خطورة، فليست الصورة هي التي تنافس اللغة، بل ظهور زواج جديد بين صورة تُعد نظيرا بصريا يحتفي بلحظة عابرة في جسد يعرض نفسه في حسيَّته من خلال يافطاته المباشرة، وبين لغة ليست موجهة لاستثارة دلالات تحتاج إلى تأويل قد يستعصي على الأذهان البسيطة، إنها تقول فقط ما “يجب أن تقوله”، إنها حسية، أي شفافة ووثيقة الارتباط بما تقوم بتعيينه. بعبارة أخرى، هناك ميل استعراضي لا يكتفي بالمتعة، بل يستجدي نظرة الآخر. وهذا ما يمكن أن نلتقطه من الخطاب المنتشر في أوساط الشباب، وفي جنبات المؤسسات التعليمية، بل في لغة الشبكات الاجتماعية وفي بعض الفيديوهات أيضا.

4- وماذا يمكن أن تقول عن نزوعات “التدريج” فيما يتعلق بالمقررات المدرسية؟

ج-لا أريد أن أفصل القول في هذه القضية، فقد كتب فيها الشيء الكثير وسبق أن كتبت فيها مجموعة من المقالات وسيظهر قريبا كتاب يتناول هذه القضية بالكثير من الدقة (العربية ورهانات التدريج).

وفي جميع الحالات، فإن الداعين إلى الدارجة إما يجهلون أسرار اللغات وطرق اشتغالها، وهذا وارد عند الكثيرين، وإما ينتصرون لما أسميه  “النموذج الجاهز”.

فعندما تفتقر الدولة إلى مشروع حضارى يُبنى وفق ممكناتها في اللغة والثقافة، فإنها تكون ميالة إلى استيراد كل شيء: السيارات والطائرات والقطارات، وبطبيعة الحال استيراد لغة “جاهزة” يمكن استنباتها في أي تربة دونما اعتبار للثقافة التي تسندها، بما فيها إنتاجها الفكري والأدبي. وهذا يصدق على كل المجالات، بما فيها إصلاح التعليم.

فقد ارتبط هذا الإصلاح دائما بوجود نماذج تعليمية جاهزة يمكن استيرادها من بريطانيا أو فرنسا دونما اعتبار لحقائق التاريخ واللغة والعمق الحضاري للوطن.

وحالة المؤسسات الخاصة لا تشذ عن ذلك. إنها تخرج تقنيين يجيدون بعض تخصصاتهم، ولكنها لم تنتج أبدا مواطنين جددا يمكن أن يسهموا في بناء صرح حضاري يستمد مضمونه من التربة المحلية.

والتاريخ شاهد على ذلك، فلم تسهم اللغات المستوردة في إفريقيا في إلغاء “حدود” القبائل في الأذهان والمتخيل وفي الصراعات السياسية، والتداول على السلطة. لقد ظل هناك دائما نوع من الولاء للغة الدولة المستعمرة، وهناك في المقابل انتماء قَبَلِي تعبر عنه اللغات المحلية. وهذا الوضع الغريب هو ما يحاول البعض استنساخه في ما تبقى من بلدان إفريقيا، الدول المغاربية تحديدا، فما لم يتحقق بمنطق التاريخ وقوانينه، يمكن أن يُفرض بالإرادة السياسية وحدها.

5- تعني أن مشكلة اللغة هي مشكلة إرادة سياسية أولا وأخيرا؟

ج- ….بطبيعة الحال، فالعربية أُخرجت من الفضاء العمومي بقرار سياسي، صحيح أن هذا الإقصاء لم يتم بصيغة قانونية، ولكنه فُرض بالممارسة، حيث اليافطات والواجهات تبحث في ذاكرة أخرى عما يغري ويشد الانتباه بلغات أجنبية.

وإما بدراجة يعتقد البعض أنها تطمئن الناس والجمهور العريض في وضعهم الدوني ككائنات فقدت مواطنتها وتحولت إلى مستهلكين يعيشون من أجل البقاء حده. لذلك لن تستعيد العربية موقعا في الفضاء العمومي إلا بقرار سياسي، ويجب أن يتحقق هذه المرة بقانون يصالح المواطنين مع دستورهم الذي جعل العربية لغة رسمية.

6-يلاحظ من خلال أعمالك محاولتك لفتح الدرس الأكاديمي على قضايا راهنة، نجد هذا في قراءتك لتأثيرات الرقمية وفي تحليلك للإشهار المغربي، والنصوص المدرسية، والخطاب السياسي وحتى قراءتك للدستور المغربي، هل هذا نابع من تصور ما لدور الجامعة والمثقف عموما في ظل طغيان السياسي على المشهد؟

ج-لم تكن المعرفة الأكاديمية منفصلة في يوم من الأيام عن هموم الإنسان في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

فنحن جزء من السياسة، بل نحن الخلفية المركزية لكل فعل إنساني يسهم في تطور وجود الناس. وسبق أن قال توكفيل عن الذين قاموا بالثورة في فرنسا إنهم لم يكونوا سوى تلاميذ تركوا مدارسهم ونزلوا إلى الشارع.

وكان يقصد بذلك أن بسطاء الناس قد يكونون هم وقود الثورات، ولكن المفكرين هم الذين يخلقون التربة التي تحتضن العوالم الجديدة التي تبشر بها. لذلك لم أنظر إلى السميائيات باعتبارها مجرد تأملات، وهي كذلك في جانب منها، بل أيضا باعتبارها أداة للهدم والتقويض وتفكيك الأنساق التي تختفي فيها الإيديولوجيات التي تتحكم في سلوك الناس وتوجهها. فدراستي للإشهار ليست منفصلة عن رغبتي في التصدي لكل أشكال التضليل والتمويه التي تصاغ ضمنها الوصلة الإشهارية، ودراستي للدستور لم تتناول التشريعات والقوانين المنظمة، بل انصبت على النصوص المضمرة التي تحكمت بعد ذلك في كل أشكال التنزيل.

إن الأكاديمي ليس مهتما بالسياسة، بمفهومها الحزبي، وليس معنيا بالحقائق التي تروج لها الأحزاب، ولكنه معني بالسياسة حين تكون خلفية يتحدد من خلالها الشرط الإنساني.

لذلك يخطئ السياسيون كثيرا عندما يعتقدون أن الفعل السياسي مفصول عن “متاهات” التأمل الأكاديمي. فالتعددية في المعنى ليست مفصولة عن التعددية في الرؤى وفي القيم وفي السياسة أيضا. فعندما نقر أن النص/ الواقعة لا يمكن أن يكون مصدرا لمعنى واحد، فإننا نقر أيضا أن الوجود لا يمكن أن يستقيم من خلال رأي واحد.

إن حياة “الجسد الاجتماعي” تكمن في تنوعه لا في وحدانية النشأة. وهذا ما قلته في مقدمة كتابي “وهج المعاني”، بل ربما هذا هو الذي يجعل السياسي ينظر بريبة وحذر إلى المثقف.

7- على ذكر أشكال التضليل والتمويه في الوصلات الإشهارية، ماتعليقك على الإشهارات التي باتت تحتل حيزا كبيرا من حياتنا اليومية؟ وهل المواطن البسيط محصن ضد هذه الألاعيب ويمكن أن نستحضر هنا ما وقع مؤخرا في عملية النصب الكبيرة المعروفة بقضية “باب دارنا” وفيها وقع مئات الناس ضحية لإشهارات مشاريع وهمية؟

ج-في العموم لا يتمتع المغاربة بحماية كافية من ألاعيب الإشهار، ولا وجود لمؤسسة مهمتها مراقبة ما يعرض على المواطنين من إشهار على غرار ما هو موجود في فرنسا ( مكتب مراقبة الإشهار). قد تكون هناك تشريعات في هذا الباب، ولكن لا وجود لمؤسسة تسهر على تفعيلها تابعة للهاكا مثلا يلجأ إليها المستهلكون من أجل حمايتهم. ومع ذلك، فإن قضية “باب دارنا” ليست مرتبطة بلصوصية إشهارية، بل لها علاقة بلصوص حقيقيين سرقوا مالا حقيقيا قد لا يتحمل الإشهاريون أي مسؤولية في ذلك. فالمؤسسة الإشهارية ليست معنية باقتناء الأرض وتجيهيزها وجمع المال وتوزيع القطع، بل معنية فقط بتسويق منتج، وهو تسويق مؤدى عنه. فلا تتحمل المؤسسة الإشهارية مسؤولية حليب فاسد بل الشركة التي توزعه.

8- هذا واضح، لكن نتساءل هنا عن ما يتعلق بقراءة الصورة وفهم أوهامها.

ألا ترى أن هناك حاجة لإدماج التربية على التعامل مع الصورة في المناهج المدرسية والجامعية مادام أغلب ما نستهلكه يمر عبر الصورة او المرئي عموما؟

ج-المدرسة المغربية متخلفة، وكذلك الجامعة في برامجها ورؤاها، كما هي كل قطاعات البلاد، بل ليس هناك تفكير جدي في إعادة النظر في المنظومة التعليمية استنادا إلى حاجاتنا نحن، كما يمكن أن تتحقق في اللغة والحضارة والمشترك المحلي.

لست ضد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى، ولكن لا يمكن استنساخ تجارب واستنباتها بالقوة في تربة لا تتسع لها أو لا تقبلها أو غير قابلة للتحقق استنادا إلى إمكانات محدودة. ومن هذه الزاوية لا أحد يفكر في الصورة ولا أحد يعتبرها جزءا من آليات التفكير والبرهنة والإقناع، رغم كل ما تقوله المظاهر الخارجية. فلا يمكن أن نتعامل مع الصورة في المحيط إذا كنا لا نعرف طبيعتها ولغتها وقوانينها في إنتاج المعنى وفي تداوله بين الناس.

هناك أمية بصرية مُعمَّمَة، ولكنها لا تثير اهتمام أحد، فقد ألِف الجميع العيش داخل صورة توهمهم أنها الحقيقة، كما يفعل ذلك التلاميذ والطلبة والعامة من الناس في المقاهي وهم يعبثون بهواتفهم أو لوحاتهم، ولكن القليل من هؤلاء يدرك طبيعة الصورة وقدرتها على التشويش على الواقع أو تشويهه. فهل ندعو إلى إدخال الصورة إلى البرامج منذ السنوات الأولى في المدرسة؟ وإذا دعونا إلى ذلك هل سيسمعنا أحد؟ لا أعتقد.

9_ ستعرف السنة الدراسية المقبلة اعتماد نظام جامعي جديد أهم ما فيه أن الإجازة ستصير أربع سنوات بعد أن كانت ثلاثا؛ وستسمى الباكلوريوس عوض الإجازة وسيكون تقويم المعارف على ما يسمى الأرصدة القياسية…كيف تتلقى هذا بالنظر إلى الوضع الجامعي الحالي؟ وفي نظرك متى يمكن أن نقول إن الجامعة المغربية قد أخذت فعلا سكة صحيحة؟

ج-لا أعرف تفاصيل هذا الإصلاح الجديد، ولكنه لن يكون مختلفا عن الصيغ الإصلاحية السابقة، فالذين يفكرون في الإصلاح لا علم لهم بواقع الجامعة المغربية ولا يعرفون ما يجري في مدرجاتها وفصولها، ولا علم لهم بالكفاءات التي تدرس فيها. وربما سأكرر ما قلته أعلاه: كل إصلاح لا ينطلق من تفكيك دقيق لواقع الحال في الجامعة المغربية لا يمكن أن ينجح. فالوصفات الآتية من الخارج لا يمكن أن تنجح لأن نجاحها في موطنها لا يعني بالضرورة إمكان نجاحها عندنا. هناك تفاوت كبير بيننا وبينهم في كل شيء: هناك فساد معمم في الجامعة المغربية وصلت آثاره الآن إلى هيئة التدريس نفسها. فهل نذكر  بقلة الموارد البشرية والمادية وبالتفاوت في العقليات، فنحن نشكو من خصاص حضاري كبير على المستوى اللغوي والاجتماعي والسياسي(مازال المغاربة يختارون ممثليهم بالقفل والسيارة والبراد…). هناك تدني في المستوى المعرفي لطلبتنا. وهناك بالإضافة إلى ذلك المحسوبية والزبونية التي تتحكم في كل شيء بما فيها التوظيفات والشهادات.

10-انشغلتَ خلال هذه المسيرة بتحليل أنواع مختلفة من الخطاب.. وكثيرون يلاحظون اليوم عودة الخطاب الشعبوي للساحة السياسية المغربية. ما أهم ما يمكن أن تسجله على الخطاب التواصلي السياسي المتداول عندنا؟

ج-الشعبوية ظاهرة عالمية، إنها من مخلفات عولمة بخست العمل الفكري والسياسي، إنها جواب خاطئ عن مشاكل حقيقية، إنها تقسم المجتمع إلى طرفين: نخبة مرتشية وفاسدة في مواجهة شعب يتميز بالطهرانية والتقديس. وهي بذلك حالة مَرَضية في تاريخ الإنسانية، لأسباب عدة منها أنها تبسيطية وتكره الفكر المركب، فهي تنطلق، كما ذكرت أعلاه، من مشاكل حقيقية، ولكنها تقترح حلولا تتناقض على المدى المتوسط والبعيد مع طموحات معتنقيها( كل الفاشيات القديمة كانت شعبوية). وهي مرضية أيضا لأنها تعتمد الشوفينية وكراهية الأجنبي والتمجيد المثالي للوطن، بل وتسخر من الفعل السياسي ذاته، فهي معادية للإيديولوجيا بمفهومها السياسي، لا بمفهومها التضليلي. وما ساعد على نموها وتطورها سقوط الوسيط السياسي والنقابي أو تراجع أهميته في المجتمع، فالدولة لم تعد تحاور مؤسسات تتمتع بصفة التمثيلية، بل تصطدم بشعب يعرف كيف يحتج، ولكنه لا يعرف كيف يفاوض أو يحدد أولويات نضاله، ويكون بذلك عرضة للتضليل. بل قد تتخذ الشعبوية مظهرا طائفيا أو عرقيا، يلغي الوطن ويدعو الناس إلى العودة إلى الطائفة أو إلى تمجيد انتماء عرقي أثبت العلم الحديث والممارسة الإنسانية بطلانه.

وقد اتخذت الشعبوية في المغرب مظاهر متعددة منها الانتماء الفئوي الذي يتردد الكثيرون في تصنيفها ضمن هذه الظاهرة، ومع ذلك فهي كذلك لأنها تمتح الكثير من عناصرها وممارساتها من هذه الظاهرة. فلم يعد العمل النقابي مؤسسا على مطالب وطنية تخص فئات من الشعب توازي بين الحقوق والواجبات والممكن والمستحيل، بل على احتجاج مرتبط بمصلحة تخص فئة معيّنة دون اعتبار لكل التقاطعات مع فئات أخرى أو مع المصلحة العامة (خلق التنسيقيات التي حلت محل النقابات). حدث هذا عند الأساتذة والأطباء والكثير من المهن والفئات الشعبية. يتعلق الأمر بشعبوية ذات بعد احتجاجي يمجد الانتماء إلى الفئة لا إلى الجسم الاجتماعي العام.

ويحتاج الأمر للحديث عنها في السياسة إلى مساحات أوسع مما هو متاح لنا هنا، ومع ذلك هناك مثال يمكن الإحالة عليه؛ فظاهرة بنكيران يمكن تصنيفها بهذا الشكل أو ذاك ضمن نوع من الشعبوية، من حيث طبيعة خطابه السياسي الذي تخلص من التاريخ الوطني لكي يستحضر تاريخ العقيدة، ومن حيث الفئات المستهدفة حيث حلت محل الموظف والعامل والفلاح والطالب، مقولات جديدة هي المسكين والفقير واللي ما في حالوش وغيرها. فهذه تتضمن موقفا مسبقا يستمد قوته من الانفعال لا من الدور الاجتماعي. فالخطاب السياسي عنده لا يتحدد من خلال يسار أو يمين أو وسط، بل من خلال الانحياز إلى الفقراء.

11- على ذكر مخلّفات تبخيس العمل الفكري والسياسي… قلتَ مرة إنه مقابل تراجع خطاب المثقف هناك ميلاد لخطاب الخبير الذي نراه يوميا للتعليق على الأحداث.. هل الأمر يتعلق بسطو على الألقاب ولعب بالمفاهيم أم هو مسألة موضوعية ونتيجة لتغير الواقع وتغير طريقة معالجته؟

ج-لا يتعلق الأمر بسطو، فالثنائيات التي تحدثت عنها كانت موجودة دائما، فالخبير كان موجودا وكذلك الإنسان المستهلك ورديفه المحتج والمواطن والمناضل. ولكن بعد أن سقطت أو تراجعت مجموعة من المحكيات، وقد  كانت أصلا أحلاما قادت أجيالا من الرجال والنساء إلى الانخراط في معارك من أجل مجتمع أكثر إنسانية وأكثر حفاظا لكرامة الناس، لم يعد المجتمع في حاجة إلى المثقف، كما تراجعت قيمة المواطن قياسا على المستهلك. وعوض أن نناضل، أي نختار قيما ومبادئ ندافع عنها، اكتفينا بالاحتجاج. يعتقد كل الناس، في الزمن الراهن الذي يطلق عليه الكثيرون “الزمن الحاضر” (أو اللحظة الأبدية) -حيث الاحتفاء باللحظة مفصولة عن دفق يشد ماضيا إلى مستقبل- أنهم “يعرفون” ويفهمون كل شيء. وهذا ما يتضح من وجود وفرة في ” الخبراء” الآن في الإعلام المغربي، وهم في الكثير من الحالات لا يقولون أي شيء، ولكنهم يختفون وراء يافطة الخبير المختص في كل شيء، لكي يقولوا ما توده السلطة في الغالب. وقد كنت قد شرحت هذا في مقال سابق أوضحت فيه أن الخبير في أوروبا كان نتاج تحول من المثقف “الكوني” صاحب الوظيفة الاجتماعية، إلى ما يسميه ميشيل فوكو “المثقف المختص” الذي يبيع معرفة، وهي معرفة حقيقية، ولكنها تخلصت من الاجتماعي والإنساني فيها. وهذا ليس حال الكثير من خبرائنا.

 

12-   تقصد ان الخبير بالمعنى السائد حاليا هو شخص تتوفر لديه المعلومات، لكنه يفتقر للمعرفة –في الغالب-وفي خلو من أية وظيفة اجتماعية كما كانت لدى المثقف؟

ج- هو كذلك في الغرب، وفي المغرب جزئيا، فهناك خبراء في المغرب يعرفون موضوعاتهم جيدا، ولكنهم ليسوا معنيين بالسياسة والأخلاق والقيم. فلا موقع لليسار واليمين والوسط في خبرتهم، فالأساسي هو الاستجابة لما يطلبه صاحب الخبرة.

13-   لكن هل مازال للثقافة من معنى في الزمن الراهن أو هذه اللحظة التي وصفتها بالأبدية، حيث الذي يحتل الوجاهة هم البلوغرز واليوتوبرز والفلوغرز؟

ج-بالتأكيد ما زال للمثقف موقعه داخل الفضاء الاجتماعي. وسيظل كذلك في المدى المنظور والبعيد أيضا. وهذا ما تؤكده الكتب التي صدرت في الفترة الأخيرة، وكلها تحذر من خطر “الشهرة” المزيفة ومن الشعبوية ومن الميل إلى الاستهلاك المفرط، ومن الانغماس في تواصل مفرط يخفي في حقيقته أزمة في التواصل، وذاك دليل على أن المقاومة موجودة وستتخذ أشكالا متنوعة. نحن لسنا ضد التقدم ولسنا ضد منافع التكنولوجيا، ولكننا ضد أن يفقد الإنسان نفسه وروحه ولغته. فقد يشكك الناس في اليسار واليمين وفي الإيديولوجيات وكل أشكال الاعتقاد، ولكنهم سيظلون مع ذلك يميزون بين الخير والشر وبين الصدق والكذب. ربما لم تعد مقولة المناضل تغري كما كانت، بل لم تعد دليلا على خلق أو مبدإ فعلي، ولكن الشرفاء موجودون ويخترقون كل التصنيفات القديمة.

14-  هذه المقاومة موجودة فعلا وبأشكال متنوعة، في هذا الصدد ألا ترى أن كل ما أفرزته ثورة التقنيات والاتصال سيبدأ في أكل نفسه بنفسه.. وسائل التواصل الاجتماعي مثلا  التي قلبت كل المعايير وأتاحت الفرصة للجميع سرعان ما بدأت تصيب الناس بالفزع والكثيرون اليوم يريد الفرار واستعادة حياته خارجها؟

ج-لا أحد يستطيع إيقاف التقدم، ولا يمكن أن نُلغي من حسابنا ما جاءت به الرقمية بمحاسنها ومساوئها. فنحن أسرى ما تبدع أيدينا. ومع ذلك بإمكاننا ترشيد استعمالها، فالمشكلة في المجتمعات، وخاصة المتخلفة منها؛ ليست الرقمية في ذاتها بل في الكثير من الأمراض التي يعيشها الناس ومنها النرجسية والرغبة في الاعتراف وحب الظهور والميل إلى الفرجة التي تجعل الناس يحتفون بالظاهر ضدا على ما يمكن أن يُبْنَى في الكينونة. والذين يستهجنون ما نقوله لا يدافعون عن مبدإ في واقع الأمر بل يبررون سلوكا. والحال أن نقاش مبدأ ما يجب ألا يتنكر للحقائق، بل يجب أن ينطلق منها، فهي أساس التحليل. وهذا ما يقوم به الكثيرون الآن في الغرب، فقد دق الكثيرون هناك ناقوس الخطر، وحذروا الناس من الأخطار التي تهدد كينونتهم وحميميتهم. ومن هؤلاء ما يطلق عليه “الهاكر المناضلون”، وأصحاب الضمير (إدوارد سنودن الذي تمرد على جهاز المخابرات الأمريكية وفضح أساليبها في التجسس على كل الناس). ومن بين هؤلاء أيضا مارك دوغان وكرستوف لابي اللذين صاحبا “الإنسان العاري”، وإلزا غودار صاحبة “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود” وغيرهم كثير.

15- إذا عدنا إلى السرد وهو مجال اشتغالك الأول أكاديميا وأيضا من خلال حضورك مؤخرا في لجان تحكيم جوائز أدبية مرموقة في العالم العربي؛ ما الذي يثير انتباهك أو ملاحظتك في السرد الذي يكتب الآن بالعربية خاصة من الأجيال الجديدة؟

ج-في الواقع لم أطلع على الكثير من هذا السرد. ولكنه يشكل في جميع الحالات تجربة تستحق المتابعة. وما يمكنني قوله هو أن كتابة القصة أو الرواية ليست امتلاك كفاية سردية تتحقق في تقنيات قابلة للحفظ، بل هي في المقام الأول معرفة تخص المجتمع والإنسان. لذلك الموهبة وحدها ليست كافية، بل هناك الجهد والتصَنُّت لوجدان الناس والاحتكاك بالمحيط هو الذي يقدم لنا إبداعات كبيرة.

17- نختم بالسؤال المؤرق والذي يتجدد كل مرة عن أزمة القراءة ونحن على بعد أيام قليلة من اختتام معرض الكتاب.. ماذا تقول لنا عن القراءة وهي ممارسة يومية لك وفعالية وطقسا لا غنى عنه؟

ج-القراءة تراجعت في العالم كليه، ولكنها اتخذت عندنا أشكالا تنذر بكارثة حقيقية لا يدرك هولها إلا من يعرف أننا لا يمكن أن نعيش بتجربتنا وحدها. فحياة الإنسان قصيرة جدا، لذلك لا يمكنه أن يعيش كل التجارب ليستوعب معنى حياتهه الخاصة، فقراءته للشعر والرواية والمسرح والمذكرات وغيرها من فنون القول والفكر ليس ترفا، بل ضرورة، إنه يتعلم من خلالها كيف ينتمي إلى ثقافته وثقافة الآخرين، بل ويتعلم كيف ينتمي إلى قيم الإنسانية كلها. وهذا ما عبر عنه أومبيرتو إيكو بقولته الشهيرة : “من لا يقرأ سيعيش حياة واحده هي حياته، أما الذي يقرأ فإنه سيعيش 5 آلاف سنة”. وكان يشير بهذه الخمسة آلاف سنة إلى تاريخ الكتابة.

المصدر: جريدة المساء

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*