تلقت الحكومة ضربتين متتاليتين تمتان بصلة إلى الثقة فيها ودرجة الفساد، بحيث نقول إن الامتحان المزدوج لحكومة قاربت السنتين من عمرها قد فشلت فيهما بنسبة كبيرة…
يجب أن نُعظِّم السلام للسيد رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بشير الراشدي، وهو يتكلم بلغة واضحة ومريحة عن صمود» الفساد في السنتين الأخيرتين في المغرب»، وهي مدة الحكومة …
قال الراشدي متأسفا إن ما تحقق في مضمار محاربة الفساد سنة 2022 غير مرض.. وأكد أن « المملكة لم تحسن تصنيفها في هذه السنة وفي السنة التي قبلها، بل على العكس من ذلك تراجعت في الترتيب…» .
وبخصوص الثقة فقد جاءت الحكومة في مرتبة متأخرة أيضاً، إذ يراها 80 في المئة من الشباب بمفهوم سلبي مقابل 16 في المئة أبدوا ثقة إيجابية بها، حسب دراسة ميدانية أعدها مرصد الشمال لحقوق الإنسان (منظمة حقوقية مدنية)، بالتعاون مع مؤسسة «فوتير إيليت» (نخبة المستقبل)، بالرغم من أن ذلك لم يلق ما يجب أن يلقاه من اهتمام، لا سيما تحت قبة البرلمان، بحيث لا أحد ربط بين المدة التي مرت على الحكومة الجديدة والسنتين المعنيتين في كلام الراشدي..
هذا الكلام ذكرني بما سبق أن أثرته منذ سنتين بالضبط تحت عنوان «الثقة والفساد في النموذج التنموي الجديد»، وقد سبق للعبد الفقير لرحمة ربه أن ربط بين الفساد وأزمة الثقة والتقرير التنموي، في مداخلة أمام أعضاء اللجنة المعنية ثم في المتابعة الصحفية التي تلت نشر التقرير.. حيث أذكر أن الفساد ورد 3 مرات فقط في نص الوثيقة الذي سلمته اللجنة لجلالة الملك في ماي 2021..
وسبقت الإشارة إلى سيادة أزمة الثقة، اصطلاحا ولغة ونسقية، على تقرير لجنة بنموسى، وذلك من الشعار إلى تفاصيل المقترحات التي جاء بها.
وقد تكررت كلمة ثقة، سلبا أو بالدعوة إلى إعادة بنائها،41 مرة.. مقابل ذلك، فإن الفساد، لم ينل حظه من اللجنة سوى 3 مرااات!
وفي السياق ذاته، وخلال أشغال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي خصصت لموضوع مكافحة الفساد، سجل رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، في كلمة باسم المغرب خلال هذه الدورة التي عقدت بصيغة افتراضية من 2 إلى 4 يونيو، أن الفساد «أصبح أكثر تفشيا وتعقيدا، وتأثيره أكثر حدة على اقتصاد الدول بحكم اختراق المفسدين لكل ثغرات أنظمة التدبير العمومي واستغلال الإمكانيات الهائلة التي يتيحها النمو التكنولوجي وتطور الآليات والشبكات المالية العالمية».
تعبيرات الفساد على قلتها وردت إحدى المرات على لسان مواطنين، أي كتعبير من مشارك في الحوار الوطني…وهو بذلك وصف حالة جاء مقترنا بالموضوع المتعلق بالغش الضريبي.
وتقول العبارة المواطنة إن»الفساد والغش والمحسوبية في تحصيل الضرائب هذه هي المشكلة.»( انظر الصفحة 20) من التقرير.
وفي المرتين الأخريين، وردت كلمة فساد، مقرونة بسياق أوسع…
والملاحظ أن العبارة شاملة تتحدث عن «المناطــق الرماديــة وجيــوب الفســاد والمصالــح الفئوية»، وهي تصف مقومات وضع « إطار لترسيخ الثقة والمسؤولية» كما تم التنصيص عليها في ص 64.
ووردت الكلمة مجددا عند الحديث عن تأمين المبادرة المقاولاتية، ضمن عبارة «بــؤر العرقلــة وعــدم الثقــة والفســاد» وما يصاحبها من نقــص الشــفافية فــي قواعــد اللعبــة الاقتصاديــة…
والواضح أن العلاقة جدلية بين الفساد والتراجع والخصاص المسجل في الثقة، تجاه جميع مناحي الحياة.. العامة.
ومن الواضح أيضا أن اتساع رقعة الفساد هو أحد الثغرات الواسعة التي تتسرب منها أزمة الثقة في مكونات البلاد وسياساتها ومبادراتها…
نظام ورجال‏ un systèmes et des hommes….
هو « الشــعور بالانتمــاء إلــى أمــة تعــد مــن بيــن أعــرق الأمــم في العالــم» والذي « يشــكل أحــد الدعامــات لبنــاء مســتقبلنا المشــترك»، يمكنه أن يقفز على وقفة مطولة ونسقية حول معضلة الفساد؟..
والوضع الحالي يعد الشروط لإخراج يساير إرادة ملك البلاد في تطهير الدولة والإدارات والحقل السياسي ومراكز القرار من كل أنواع العرقلة والتعطيل، هل نخلق شروطا كافية بالفعل كي يحدث « التــوازن بيــن دولــة قويــة وعادلــة ومجتمــع قــوي ودينامــي».
كيف يمكن للفساد والمفسدين ألا يسقطوا المشروع النهضوي الكبير والتنموي غير المسبوق؟
ألا يستحق بالفعل اقتراحات تتجاوز الإرشاد القانوني إلى تفكيك بنية الفساد والمفسدين، وتقوية المجتمع وتقديم المساعدة له لأنه في خطر؟

في مجتمع يتهدده الفساد والمفسدون، تدرك الدولة القوية، بعد قرون من إضعاف المجتمع، أن قوتها وقوته ضروريتان للمستقبل، ومتلازمتان لبناء زمن مغربي آخر، بل هي التي تعمل على تقديم مساعدة لمجتمع في خطر؟
لقد عاش المغاربة مسارات قضائية وأخرى سياسية، كان محورها الفساد بكل تجلياته، وراكم المغرب تجربة غير يسيرة في مجال إعلان الحرب على الفساد، والمفسدين، كما أن فضاءه الوطني العمومي يعرف مركزية شبه ثابتة لهذه الموضوعة، وقد أشار التقرير إلى أنه «وعلــى امتــداد مراحــل إعــداد هــذا التقريــر، تــم التعبيــر بشــكل صريــح عــن العديــد مــن الانشــغالات لدى كل المشاركين، المواطنــون والأحــزاب السياســية والفاعلــون المؤسســاتيون والاقتصاديــون والشــركاء الاجتماعيــون وممثلــو المجتمــع المدنــي والهيئــات الكبــرى»، فهل يكون الفساد قد حظي باهتمام لا يزيد عن ثلاث مرات، في نفس الوقت يبقى فيه الريع، «هو أعقل أشكال الفساد وأكثرها قانونية؟».
المواطنون، ومعهم كل القوى الحية وأقوياء النفوس، يعرفون أن الفساد يتجول الآن، يحمل نماذج أخرى غير نموذج التنمية الذي اتفق عليه الجميع وثمنه الجميع وشكره الجميع، من أبسط مواطن إلى أعلى هرم السلطة، اليوم يتعرض لتحرش سياسي من المفسدين، ويعرفون أن الدخول إلى تفكيكه من الداخل يمر عبر إحدى الأدوات الأساسية لعمل المجتمع أي السياسات والديموقراطية والقضاء. ازداد منسوب العجز في الثقة، مع ما تعرفه البلاد من موجة تضخم وغلاء وتلاعبات، ومن انتصار القوة والمال على مطالب فئات واسعة في البلاد..

وازداد منسوب العجز في الثقة عندما تابع المغاربة العجز «الطوعي» للحكومة في تدبير البلاد ومحاربة المضاربات والاستنزاف عبر تقليص هوامش الربح لدى كبريات شركات التوزيع في المحروقات..
كما ازداد منسوب عدم الثقة عندما تابع المغاربة القوة التي يملكها الفاسدون في مجال حصري وحيوي من قبيل انتصارات المونديال، وكيف أفسد المفسدون الفرحة عبر الاغتناء البهيمي والمجنون من التذاكر.
ومن أفدح ما يقع اليوم هو محاولة التطبيع مع الفساد بمقتضى المصلحة الوطنية!!!
ويتم الافتراء على الروح الوطنية لحماية الفساد وعدم متابعة المفسدين بدعوى أن المغرب يتعرض لاتهامات باطلة حول إفساد برلمانيين أوروبيين، لا يجب أن نتابع المفسدين هنا حتى لا نقيم الحجة على فسادنا!!! وعلينا!!!
ولم يسبق أن حشر أحد الوطن في معادلة لا أخلاقية بهذا الحجم كما يفعل أصحاب المال والسياسة اليوم في قضية التذاكر، وفي قضية الأسعار والثروات الفاحشة الخاصة بالمحروقات..