تَـمَغْربيتْ
تَـمَغْربيتْ
سعيد بنكراد
“”إنّ فكْرةً خاطئةً وواضحةً تكون أَقوَى وَأشَدَّ تأْثيرًا عند الحشودِ مِن فِكْرَة صَحِيحَةٍ ولكنّهَا مُرَكّبةٌ”. توكفيل.
انْتشَرتْ فِي السَّنواتِ الأخيرة دعواتٌ تُبشِّرُ بــــ”خِصيصَةٍ” جَديدةٍ عند المغاربةِ أطْلقوا عليْها “تَـمَغْربيتْ”.
يتعلّقُ الأمرُ بــ “هُويَّةٍ” غريبةٍ تَمتَحُ عَناصِر تَشكُّلِها مِن كُلِّ ما يقودُ أو يجبُ أنْ يَقُود إِلى بَلورَةِ “شَخصِيّةٍ” تَتَحرَّك خَارِج مُحدّدَاتِ المواطنةِ والحقّ والواجبِ وخارج مركزيَّةِ الفردِ في الدَّولة المدنيَّة الحديثةِ أيضاً.
بَعضُ هذه العناصرِ دِينيٌّ، وبَعضُها عِرْقِيٌّ صريحٌ، وبَعضُها جِهوِيٌّ، وما فضَلَ منها يُصنّفُ ضِمنَ ما أطلقوا عليه: “التّعبيراتُ الشعبيّة” .
فكانت “تَـمَغْربيتْ” هي الشّكلَ الوجوديَّ الذي يجمعُ بيْنهَا.
إِنَّها بذلك تُؤسِّسُ لِكيانٍ جديدٍ لا يَكتَرِثُ فِي الغالبِ لِلشَّرْطِ الحياتيِّ كمَا يُمكنُ أنْ يُعَاش حقيقةً ضِمْن بِنياتٍ اِجْتماعيَّةٍ قَائِمةٍ على تبايناتٍ في المالِ والجاهِ والحُظوةِ والسّلطةِ والنّافعِ من الوطنِ وغيرِ النّافعِ.
قد يُحيلُ ذلك على سلّميّةٍ تصنيفيّةٍ تُوجَدُ خَارِج النَّاس وفوْقَ شرْطِهم الحياتيِّ، إنّها تَسمو على السيّاسةِ والإيديولوجيا، وهي بذلك قطعيّةٌ غَيْرُ قَابِلةٍ لِلتَّعْديل ولا يُـمْكِن التَّداولُ في أحْكامِها.
إِنَّها مُتعاليةٌ لا يَصلُها رذاذُ الصّراعِ الاجْتماعيِّ، ولا تنالُ منها عَوادي الدّهرِ، وهِي أيضاً فِي مَنْأى عن كُلِّ التَّجاذبات السِّياسيَّةِ القائمةِ على صِرَاعٍ للـمصالِح لا دِفاعًا عن “شعب تَـمَغْربيتْ”.
إنّها تُشيرُ بخاصياتِها هاتِه إلى سلوكٍ “فِطْرِيٍّ” شبيهٍ بِــ”الجينات” الأصليّة السَّابقةِ على وُجودِنا فِي الحيَاةِ، فهي ما يُـمِدُّ الفرْدَ والجماعةَ بِالجاهز فِي السّلوكِ والأهْواء.
إِنَّنا لا نَتَعلَّمُ من خلالِها كَيْف نَكُون مَغارِبةً، فنحْن نُولدُ فيها مَغارِبةً قَبْل وُجودِنا فِي المجْتمع.
إنّها تعبيرٌ عن رغْبةٍ في التّخلّصِ من الدّفقِ الزّمنيِّ من أجلِ استكْناهِ ما يُشكّلُ سماتٍ موجودةً خارجَ تفاصيلِ العيشِ اليوميِّ.
سنكونُ في جميعِ هذه الحالاتِ أمامَ تَنميطٍ قائمٍ على تصنيفٍ مُسبقٍ يُدرِجُ الفعلَ الفرديَّ ضمن نماذجَ سلوكيّةٍ هي ما يُصدّقُ عليه، فهي شرطُ امتثاليّتِه، ذلك أنّ الفردَ فيها واجهةٌ لحشودٍ لا تُرى.
وذاك هو جوْهرُ “التَّصْنيف”، إنّه إقرارٌ بِوجود خَصائِصَ مُلَازِمَةٍ للمصَنَّف تَشمَل سلوكَه وتفْكيرَه ومخيالَه ورُدودَ أفعالهِ وأحكامَه على الأشْياء.
إِنَّه يَخلُقُ حَالَة انتِظار يُـمْكِن مِن خِلالِها تَوقُّعُ مَا يُـمكنُ أنْ يَصْدرَ عَنْه.
ووفْق هذَا التَّحْديدِ يَقتَضِي فِعْلُ التَّصْنيفِ “تَحصِينَ” الذَّات بِسلْسِلةٍ مِن الـمُسبقاتِ والأحْكامِ الجاهزةِ.
إنّه يَتضمّنُ إحالةً على حنينٍ مُستبطَنٍ إلى ما ضاعَ أو ما يَتوهّمُ الـمُصنّفُ أنّه قد ضيّعهُ وهو يتلمّسُ طريقَهُ نحو حداثةٍ كسيحةٍ.
فَعلَى عَكْس المذْهبِ أو الطَّائفةِ اللّذين يَستَنِدان إِلى نُصُوصٍ صريحةٍ تُحرِّم وتُحلِّ وتُبرِّر المستحبَّ والمكروهَ، فَإِنّ التَّنميطَ يَتَحوَّلُ إِلى مِظَلّةٍ لا تُرى مِن أَجْل التَّغْطية على كُلِّ التَّفاوتاتِ التي تَتحكّمُ في تحديدِ مواقعِ الأفرادِ ضمنَ نسيجٍ اجْتماعيٍّ هو ما يُشكّلُ الوَضْعِيَّ في حَيَاة النَّاسِ.
حينَها يُصبحُ التّنميطُ هو مَصدرَ العادلِ وغيْر العادلِ، ومعْيَارَ الخيْر والشَّرِّ وما يُقبَلُ وما يَجب أنْ يُرفَضَ. يتمُّ ذلك دائماً وَفْق مَا تُبيحُه تَـامَغْربيتْ أو تَسمحُ به. لذلك كانت صُورتُنا لِلآخر مَحكُومةً بِالضَّرورةِ بِالصُّورةِ التِي نمْلكُها عن أَنفسِنا.
إنّنا لا نحضُرُ في الوجودِ من خلال شرطِنا الثّقافيِّ، بل وَفق ما يُـمكنُ أنْ يَسمو بنا على الآخرينِ.
والحالُ أنّ الشّرطَ الحياتيَّ لَيْس حَالَةً حضاريّةً خَالِصةً تَتشكّلُ في الوِجدانِ من خلالِ سلوكٍ غُفْلٍ خَارِج كلّ المؤثِّرات، إنّه حاصلُ الكثِير مِن المصافِي والتَّمثُّلات الثَّقافيَّة المستبطَنةِ.
لذلك لا تَقومُ الرّوابطُ الاجتماعيّةُ ضمن “تَـمَغْربيتْ” على عيشٍ مُشتركٍ تَتحقّقُ داخلَه مصالحُ الأفرادِ والجماعاتِ، بل”تَستمدُّ مشروعيّتَها وجَوهرَها من عنصرٍ خارجيٍّ لا يخلقُ نظيراً للذّات، بل يُشكّلُ عندها “آخرَ مطلقاً” يُبنى في الغيبيّاتِ والزّمنِ القُدسيِّ” ، وضمن ما أفرَزهُ القهرُ الاجتماعيُّ والسياسيُّ أيضاً. فالسّابقُ في الذّاكرةِ قياسُ كلِّ شيءٍ. وذاك مَصدرُ الفجَواتِ والكُوى الرَّفيعةِ التِي تقعُ على هامِش القانونِ ذاتِه.
فالقانونُ وَاحِدٌ عِنْد جميعِ النّاسِ، ولكِنّ سُلْطانَه قد لا يَشمَلُ كُلَّ فضاءَات الجسْم الاجْتماعيِّ، هناك مناطقُ فِي “الهوِيّةِ” قد تَستعْصِي على “السُّلْطة” أو تَتَطوَّر داخلَ نِظَام قِيمي لا عَلاقَة لَه بِالقانون الوضْعِيِّ الذِي تتبنَّاه الدَّوْلةُ (لا يُحاسِبكَ الشرْطِيُّ على المخالفةِ فقط كما يَقتَضي ذلك القانونُ، إِنَّه يَستهْجِن سُلوككَ الذِي لا يُرَاعِي حرمةِ الدّين أيضاً).
وَهُو مَا يُؤكِّده التَّباينُ فِي الانْتماءِ إِلى الزَّمنيَّةِ ذاتِها. فالـمدينةُ الواحدةُ عندنا مُوَزّعَةٌ على أَزمِنةٍ كثيرةٍ، بعْضهَا مِيلاديّ يَنتَقِي مِن الأيَّام مَا يُمْكِن أنْ يُحيلَ على موقِعٍ مُفترضٍ في التَّاريخ الكوْنِيِّ، وَأُخرَى هِجْريَّة تُسقِطُ زَمَنيَّةً خَاصّةً هي زمنيّةُ العقيدةِ والإرثِ الحضاريِّ للأمّةِ.
هُنَاك تَوْق إِلى المسْتقْبل “الحداثيِّ” فِي الزَّمن، وهناك تشبُّثٌ بِزمنِيَّةٍ طقسيّةٍ تَخصّ الذّات وحدَها في الدّين: خرجَ الآلافُ من المواطنين فِي مَدِينَة الرِّبَاط دِفاعًا عن “الخُطة الوطنيَّة لِإدْمَاج المرْأة” التِي جَاءَت بِهَا حُكُومَة التَّناوب الأُولى، وَخرَج الآلَافُ مِثْلُهم فِي الدَّار البيْضاء يُنادون بِإسْقاطِها.
فكيْف يُمكنُ توزيعُ “تَـمَغْربيتْ” على هؤلاء وأولئِك.
لا أحدَ فِي حَقِيقَة الأمْر يُمكنُ أنْ يُحدّدَ بدقّةٍ المعنى الحقيقيّ لــ”تَـامَغْربيتْ”، وكيْف يُجَسّدُها الأفْراد فِي سُلوكِهم. فَعدَا حالاتِ التَّجْييش والتّحريضِ الموْسميَّة أو العابرَة، كُلُّ شَيْء يُمْكِن أنْ يَعُود إِليْهَا بِما في ذلك حالاتُ الكسَلِ والتَّواكلِ والخمولِ والهمزةِ والمحسوبيّةِ و”الكالةِ” وعدَم احتِرام الوقْتِ والتَّلصُّص على الغيْر.
وفِي هذِه الحالةِ قد تُصْبِح “تَـمَغْربيتْ”، بديلاً عمّا يحكمُ سلوكَنا في الفضاءِ العموميِّ، فنحْن لا نَحتَمِي فيها بِقانون وَضعِيٍّ هُو مَا يَضبُط العلاقات بَيْن النَّاس، بل نَنتَمِي إِلى تَصنِيفٍ سُلوكيٍّ وأخْلاقيٍّ مُسبَقٍ هُو الذِي يُحدِّد لنَا الكثِيرَ مِن رُدُود أفْعالِنَا.
يتعلّقُ الأمرُ بتقاطُبٍ بين ما يُنظِّمُ عالماً وفق مصالحَ تخصُّ الأفرادَ والجماعاتِ، وبين آخرَ مُستمدٍّ من ميثاقٍ تَبنيه قناعاتٌ لا تخصّ سوى المؤمنينَ بها. وتلك كانَت مُنْطلقاتُ الكثِير مِن التَّنْظيمات المتطرِّفة التِي بدَّلَت الوطن بِالطَّائفة أو العرْق أو المذْهب (يَفتَخِر أحدُ الفقهَاء بِأَنّه أَسهَم فِي بِنَاء الكثِير مِن المرافق الرِّياضيَّة وغيْر الرِّياضيَّة خَاصَّة بِالنِّساء وحدهنّ.
إنّه بذلك كان يؤسّسُ مَا يُشْبِه النِّحْلة التِي تعيشُ على هَامِش المجْتمعِ وعلَى هَامِش قَوانِين وضعيّةٍ تَخُصّ جميع المغاربة) .
استنادا إلى ذلك يَتحوَّل التَّصْنيفُ إِلى مَسكُوكٍ عامٍّ قائمٍ على كلِّ ما تبنّاه النّاسُ أو آمنوا به خارجَ محدّداتِ المواطنةِ.
لذلك قد يَـمتَدُّ مداهُ لِيشْمل اِنْتماءاتٍ جزئيّةٍ أو فرعيّةٍ (النِّحَل) لا تطمْئِنُّ الذَّاتُ إِلَّا داخلَها.
لا يعودُ الأمْرُ في هذا السّياقِ إلى نظامٍ رَمزِيٍّ يُوجِّه السُّلوكَ أو يُفسِّره، بل هُو إِكرَاهٌ يَقودُ الذَّاتَ إلى تَكيِيفِ مَواقفِها مع كلِّ ما أُودِع جهراً أو سرّاً في “تَـمَغْربيتْ”.
إنّ الفردَ يَبحثُ في ذاكرةِ هذا التّوصيفِ عمّا يُحيلُ على محكياتٍ هي وحدَها قادرةٌ على تخْليصِ التّجربةِ من كلّ ما يَشدُّها إلى حقيقةٍ مستمدّةٍ من عيشٍ فعليٍّ.
إنّه يعيشُ موزّعاً بين مَا يُشْبِه الغفْران والتَّطهُّر في الذّاكرةِ وبين منتجاتِ العصْر كما تَأتيه من الفضاءِ العموميِّ.
والحالُ أنّ الانْتماءَ إِلى الإنْسانيَّة لا يَتِم مِن خِلَال تَوهُّمِ وَحدَةٍ كَونِيّةٍ مَزعُومةٍ، بل يَتَحقَّق مِن خِلَال القُدرة على التَّصَرُّف فِي الـمُتاح الإنْسانيِّ وَفْق حاجاتٍ يفْترضهَا الانْتماء إلى إرثٍ حضاريٍّ، ووفق ما يَقتضيه معيشٌ يَومِيٌّ يُفْرِز حَالَة وَعْيٍ، هي ما يُوجِّه السُّلوكَ وَيُحدِّد نمطَ العلاقاتِ بَيْن النَّاسِ في هذا المعيشِ ذاتهِ.
وهي أيضاً مَا يُبلْوِر هُويَّةً تتحقّقُ ضمنَ ما يُشيرُ إلى مصيرٍ مشتركٍ يجمعُ بينهم في قديمِ التّاريخِ ومستقبَلِهِ.ِ وذاك ما يشكِّلُ وحْدةً قادرةً على اِسْتيعاب خُصوصيَّاتهم في الانتماءِ إلى وطنٍ هو الجامعُ بينهم.
فالكثِير مِمَّا كان يُعَدُّ جُزْءًا مِن الهوِيّةِ تَحوَّل اليوْم إِلى عَناصِر فُلكلوريَّة لا تَستثِيرُ أحداً ولا يتذكَّرهَا النَّاس إِلّا فِي المواسم أو في بعض الطُّقوس الدِّينيَّة.
وهذا معناهُ “أنّ الانْتماء إِلى مَجمُوعةٍ مَا لا يَقتَضِي اِنْسجامًا ثَقافِيّاً، إِنَّه في وَاقِع الأمْر حَاصِلُ إِرادةٍ سِياسِيَّةٍ” (حسن رشيق)، وقد يحدثُ أنْ “تتشكّل هُويَّاتٌ جَماعِيّةٌ حَتَّى فِي غِيَاب وَجودِ ثقافَةِ وَلغَةٍ مُشْتركتيْنِ” (حسن رشيق)، أي حتى في غياب تَـمَغْربيتْ.
وتلك هي طبيعةُ العيشِ في المجتمعِ، إنّنا نولدُ وننمو داخل زمنيّةٍ تُغيّر من شكل وجودِ كلِّ شيءٍ.
لذلك تتحدّدُ “الكائنات الإنسانيّة بما يمكنُ أنْ تكونَ عليه، أيْ بما سيلْحقهَا مِن تَغيِير، لا بما هي عليه في الزّمنِ الرّاهنِ” ، أو ما كانت عليه.
إنّ الثَّابتَ الحقيقيَّ فينا هُو القابلُ لِلتَّغَيُّر، فنحْن لا يُمْكِن أنْ نُوجَد فِي الزَّمن خَارِج احتمالاتِ التّحوّل. وقد يَكُون ذَلِك هُو مَا يدْفعنَا إِلى الاحْتفاظ بِصورِنَا فِي ألْبومات العائلةِ، إِنَّنا مِن خِلَال ذَلِك نَلتَقِط التَّغَيُّر فِي مَا يُشكّل إنِّيّةً دالّة على الثّباتِ فينا.
إنّنا نَبني من خلالها قصّةً تَستوعبُ عناصرَ الديْمومةِ والعارضِ في كيْنونَتنا.
بعبارةٍ أخرى، إنّ “الهوِيةَ ليسَت كِيانًا مُغْلقًا، إِنَّها أثرٌ مِن آثارِ الزَّمنِ، وَهِي بِذَلك مُدرَجَةٌ ضِمْن مآلٍ، فَـ”الأنَا” تعيشُ حياتَها كلَّها ضِمْن هذا المآل، وستكونُ عوْدتُها إِلى الماضي اِسْتثارةً لـحنينٍ وعبادةً لِلْموْتى” ، كما يؤكّدُ ذلك الخطيبي.
إنّها بِذَلك خطاطةٌ عَامَّةٌ أُودِعتْ فِيهَا وضْعيَّات وأحْدَاثٌ ومواقفُ ورمُوزٌ وكُل ما يُمْكِن أنْ يَشتَمِل عليْه مُتَخيَّلُ أُمَّةٍ مَا، كمَا تَصوغُه اللّغَةُ وتضعُه لِلتَّداول، أو كما يُحيل عليه شرْطُها الحياتيِّ.
إنّ مضمونَ الهوِيّةِ لا يكمُنُ فِي الاسْتغْراق الكُلّيِّ فِي مُحدّدَات أَولِيّة تُصنَّفُ الكائناتُ داخلَها حسب ما تُمليه “جيناتُ” الفصيلةِ، بل هي القدرةُ على التجدّدُ داخل الإرث وداخل الـمُتاح الحضاريِّ.
وعكس هذه الثّوابتِ تُصبحُ “الهويّةُ”، كما تتمُّ صياغتُها في “تَـمَغْربيتْ”، مستعصيّةً على الإدراكِ إِذَا لم تكُن تميُّزًا عن الآخر، ما يُمكنُ أنْ يُشيرَ إلى تَبرِئةِ ذِمَّةٍ من المواطنةِ وتنصُّلٍ مِمَّا جاء بِه العصْر، في الوقتِ ذاته.
إنّ الأمرَ في “تَـمَغْربيتْ” شبيهٌ بالأساليبِ الدعائيّةِ القديمةِ، فلَا يُمْكِن لِأيِّ نشاطٍ دِعائيٍّ إغفالُ دَوْرِ الحكاياتِ فِي الإقْناع الانْفعاليِّ، “فالدِّعايةُ كانت دائمًا هِي فنَّ رِوايةِ الحكايات” .
لذلك لا تُشكِّلُ “تَـمَغْربيتْ” خطراً على الدّاعينَ إليها، إنّها تُصبِحُ كذلك عندما يَعْتقنهَا البسطاءُ وتُصبحُ عائقاً عندهم عن التَّمْييز بَيْن الحقيقيِّ والـمُـستهامِ، حقيقتُهم في التّاريخِ وفي المعيش اليوميِّ، على حدٍّ سواء.
“فلا وُجُود لِلعنْصريَّةِ بَيْن الأغْنياء، فقد يُنتِجُ هؤلاء عَقائِد لِلْعنْصريَّة، ولكِنّ الفقراء هم من يجسّدُها في الممارسَةِ، وذاك أَخطَرُ مِن العقيدةِ” .
فلا وجودَ إذن لبُعدٍ موضوعيٍّ في تقديرِ الأشياءِ والحكمِ عليها، إِنَّ “الحقيقة” تُصنَع الآن فِي الـمُختبراتِ ومَكاتِب الخبْرةِ وسبْر الآرَاء وَفِي مَا يُمْكِن أنْ تُحَدِّدَه الخوارزْميَّات التِي تَتَحكَّم فِي تَوجِيه الرَّأْي العام وَفْق مَا تَودُّه المؤسَّساتُ السِّياسيَّة والاقْتصاديَّة.
إنّنا نعيشُ في عصرِ “ما بعدَ الحقيقَةِ”، ومن ميزاتِ هذا العصرِ “أنّه يشوِّشُ على الرَّأْي العام ويَعوقُه عن التَّمْييز بَيْن الصحِيحِ والمزيّفِ” .
لذلك لا يُشكّل الرأيُ العام هويّةً “ولا يَتَمتَّع بِالوَضْع الإبسْتيمولوجي لِلعلْم، ولا بِالوَضْع الأنْطولوجيِّ لِلحقيقة، إنّه لا يَتَجلَّى أبدًا كمَا هُو، فهو لا يَكشِف عن نَفسِه إِلَّا مِن خِلَال وُجُود مَحفل تُوَسّطِي بَيْن الشَّعْب والسُّلْطة التَّنْفيذيَّة” .
و”الإرادةُ الجماعيّةُ” هي ما يُشكّلُ هذا المحفل، فهي تتحقَّقُ في الفضاءِ العموميّ وفي صناديقِ الاقتراع، لا في المساجِد والأدْيِرةِ وفي ما قد يُنسبُ إلى “تَـمَغْربيتْ”.
لذلك كان التَّبْسيطُ خَصِيصَة مِن خاصِّيَّات التَّصْنيف، إِنَّه مَصدَرٌ للحُكمِ السَّهْلِ وهو ما يقودُ إلى النُّفور مِن التَّعْقيدِ والأحْكامِ الـمُرَكّبةِ.
أو هو الخلْطُ بَيْن خُصوصيَّات فِي المأكلِ والملْبس وفِي طَرِيقَة النُّطْقِ أو التَّرْكيب والتَّباينات فِي تَسمِيةِ بَعْض أَشيَاء المحِيط، وهذا أمرٌ يَقتضيه عيشٌ مشتركٌ هو أساسُ الانتماءِ إلى وطنٍ محدّدٍ في التّاريخِ والجغرافيا، وبين “نمطٍ” مُصطنعٍ في الوجودِ يَستندُ إلى “قاعدةٍ سلوكيّةٍ” تَبنِي “حقيقتَها” وَفْق خُصوصيَّات مُستهامةٍ يَصعبُ في الغالب تَحدِيدُ مضْمونِها بِدقَّة.
يَجِب أنْ نُغرِقَ قيمَ الحداثةَ فِي مَجمُوعةٍ مِن الـمُسبقاتِ الأخْلاقيَّةِ والعقَديّةِ، لِكيْ نَتَخلَّص مِن تَبِعاتِها فِي السُّلوك وتنظِيمِ الفضَاءِ العموميِّ.
وهنَا أيْضًا سنصْطَدِمُ مَرَّة أُخرَى بِالتَّمْييز الشَّائع بَيْن الرَّأْي والعِلم، الأوَّل أَحاسِيس ذَاتِيّةٌ لا تَستَنِد إِلى أيّ تَجرِبةٍ، أَمَّا الثَّاني فَمبنِيٌّ ضمن ما تقولهُ وَقائِعُ فِعْليَّة. إنّ العِلْمَ أحكامٌ مركّبةٌ ميزتُها أنّها خاليةٌ من تقديراتِ الذّات، أمّا الرأيُ فمجرَّد أَفكارٍ بَسِيطَة يتداولهَا النَّاس فِي الصالوناتِ الخاصّةِ والمقاهي والباراتِ وفي شبكات التّواصلِ الاجتماعيِّ.
وذاك هو مَصدرُ التّناظُرِ بين الرأيِ والتّبسيطِ. إنّ النَّاسَ ميَّالون إِلى تَنظِيم تجاربِهم الخاصَّة أو الجماعيَّة اِسْتنادًا إِلى مَا تُوَفّره خِبْرَةٌ مَحَليَّةٌ أو ما تسرّبَ إليهم مِن مُعْتقداتهم أو إيديولوجياتِهم.
إنّ الرّأيَ شبيهٌ بــ “لُغةِ الخشَبِ” فهي دائماً ” كلامٌ مزيفٌ”، بتعبير أرمان روبين .
إنّه وَسِيلَةٌ مُثلى مِن أَجْل تَجاوُز الحواجزِ التِي يُقيمُها العقْل حِمايةً لمبادِئه.
لذلك كانت “الفكْرةُ البسيطةُ قادرةً دائماً على جعلِ الإحاطة بواقعٍ معقّدٍ، أمراً سهلاً، إنّها، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ المسْكوكِ، تُطمْئنُ الذّات لِأنَّهَا تُقدُّم إليها تفْسيرًا بسيطًا ومريحًا” .
بعبارة أخرى، “إِنَّ التَّبْسيط والغُلوَّ فِي المشاعرِ والأحاسيس يُجنِّبان الـحُشودَ الشَّك والتَّردُّدَ “.
وقد كان توكفيل يقولُ “إنّ فكْرةً خاطئةً وواضحةً تكون أَقوَى وَأشَدَّ تأْثيرًا عند الحشودِ مِن فِكْرَة صَحِيحَةٍ ولكنّهَا مُرَكّبةٌ”.
وَهذَا ما يُفسِّر التَّباينات التي تتحكّمُ في سُلُوك الفرْد. فبإمكانِه بَلورَة الكثيرَ من الأحْكامِ يكون مَصْدَرُها العقْل، ولكنَّه وسطَ الحُشودِ يَتَبنَّى آراءَ الآخرين. يَجِب أن نَعُود دائماً بِالرَّأْي الفرْدِيِّ إِلى مَا تُصدِّق عليْه الجماعةُ.
وذاك ما يُميّز الانفعالَ عن أحكامِ العقلِ؛ إِنَّه يَشتَرِطُ تَنشِيطَ مَا اسْتبْطنته الذَّاتُ فِي شَكْل اسْتيهاماتٍ تَسكُن مَـحْكيَّات تَنتَشِر فِي تَفاصِيل عَيْش النَّاس. وهذا ما يُفسّر أنّ كُلَّ الأساليب الدِّعائيَّة، القديمةِ منها أو تلك التي اتّخذتْ في عصرنا شكلَ “تواصلٍ”، قد تميّزت بقدرتها على نَسْج محْكيَّات، إِنَّها كانت ومازالت جُزْءاً مِمَّا يُطْلَق عليْه “العصْر السرْدِي”، فالنَّاس لا يُكَوِّنون آراءَهم بِشَكل حُرٍّ وإراديٍّ، إِنَّهم مُوجَّهون مِن دَاخلِهم نَحْو قَوْل مَا يُرَادُ لهم قولُه. لِذَلك لا يُشيرُ الَّذين يتحدَّثون عن “تَـمَغْربيتْ” إِلى أسبابِ فقْرِنا وبُؤسِنا والفسادِ الذِي يَنخُر إِداراتنَا وجامعاتِنا والكثير مِن مُؤسَّساتِنا. ولا يتحدّثون أيضاً عن “مَغارِبة الحداثةِ” و”مَغارِبة التَّقْليد” ولا يُميّزون بيْن “مغاربةِ الفقرِ” و”مغاربة الثّروةِ” وبين “مغاربة النّزاهةِ” و”مغاربة الهمْزة”.
وتلك هي الخصيصةُ التي يُشيرُ إليها غُوسْتَاف لُوبون أيضاً وهُو يَتَحدَّثُ عن “سيْكولوجيَّة الحُشودِ”، فبناءُ “هويّةٍ شاملةٍ” يَقتضي بالضّرورةِ تبسيطَ الوقائعِ والتّقليصَ مِن مَداهَا مِمَّا يُؤدِّي إِلى بَلورَةِ “حَقِيقَةٍ كليّةٍ” لا تَقبَل الضِّدَّ والنِّسْبيَّة.
وليس غريباً أنْ يتمّ الرّبطُ عند بعضِ دُعاةِ تَـمَغْربيتْ بينها وبين ما أُطلِقَ عليه “يقينيّات محليّة” (وهو أمرٌ غريبٌ حقاً أنْ يتحّدث المثقفون عن “اليقين”).
فما كان يُشكّلُ في الغالبِ أَحكَاماً اِجْتماعيَّة أو مَعرِفةً مَعيشِيّةً تَخُص تَنظِيم شُؤُونٍ حَياتِيَّة عابرةٍ، كمَا هو الحال عِنْد القبائلِ والعشائرِ والتّجمعاتِ السكانيّة المعزولةِ، يَتَحوَّل فجأةً إِلى حَقِيقَةٍ مُطلَقَةٍ تُبنَى عليْهَا هُويَّةٌ جَدِيدَةٌ هِي التِي يَستَنِد إِليْهَا المغاربةُ فِي تَنظِيم حَياتِهم، كُلُّ المغاربةِ، الأغْنياءُ مِنْهم والفقراءُ والدّهماء وسفلةُ القومِ والذين لا تَصنيفَ لهم.
بل إنّ اللّغة ذاتَها لا يُمكنُ أنْ تكونَ قادرةً على التّعبيرِ عن تَـمَغْربيتْ إلا إذا كانت عاميّةً تَكتفي في الغالبِ بتدْبير شأنٍ يوميٍّ أو بنقلِ الحسيِّ واستنساخهِ. والحال أنّنا نَستعْمِل اللغَةَ أَدَاة لِلْإفْلات مِن ربقةِ الطّبيعةِ ومحدوديّتِها، وتلك وظيفتُها الأساس.
فَأن تُسمِّي مَعْنَاه أن تَنفَصِل عَمَّا تُسمِّي.
بل إنّ التَّسْمية ذاتهَا لَيْست سِوى لَحظَةٍ فِي التَّعْيين، فجوْهر اللّغَةِ هُو الخُروج بِالذَّات مِن تمثُّلَات العيْشِ إِلى مَا يُمْكِن أنْ يُشكِّلَ عالماً مُمْكِنا فِي الذّاكرةِ.
إنَّ الكفَاف لَيْس فِي العيْش وَحدَه، إِنَّه فِي التَّمْثيل الرمْزِيّ أيْضًا وَفِي اللغَة تحْديدًا.
“فما تُشيرُ إليه الأحلامُ والاستيهاماتُ والأساطيرُ يعبّر في واقعِ الأمر ِعن ميلِ الذّاتِ الدّائم إلى أنْ تكونَ مصدراً للمعْنى (…) لِذَلك تَمتَدُّ جُذُور اللّغَةِ فِي الرَّغْبة وَفِي كُلِّ الغرائز التِي تُحرِّكُ جُزْءًا مِن حَياتِنا” .
وضمن “تَـمَغْربيتْ” أيضا تُصنّفُ الأصواتُ الدّاعيّةُ اليومَ إلى “تَصحيحِ” التّاريخِ، واستبدالِ “الفتح الإسلاميّ” بـ “الغزو”.
فهذا التّصحيحُ وحده سيُخلِّص الذاكرةَ المحليّةَ من كل ما علِق بها، لغةً وديناً وقيماً وتاريخاً وشواهدَ وأمثالاً، لكي تستعيدَ الأمّةُ “عِرقَها الصّافي” كما كان، خالياً من كلّ الشّوائبِ قبلَ أنْ يُلطّخَه “الغزاةُ” أو” الفاتحون”.
لذلك قد تُوهِمُ “تَـمَغْربيتْ” بِالتَّعدُّديَّة فِي القيم الروحيّةِ والثقافيّةِ، ولكنّها فِي وَاقِع الأمْر لا تُبشِّر سِوى بِحقيقةٍ وَاحِدةٍ هِي مَا يَجمَعُ بين كُلِّ المغاربة، فلَا يَتِم الحوَار فِي الفضَاء العموميِّ ضِمْن مَا تَقتضِيه علاقَاتٌ تَتِم بَيْن أفْرادٍ تجمعُ بينهُم صداقاتٌ وصراعاتٌ ومصالحُ، بل اِسْتنادًا إِلى مَا يَسمَح بِه التَّصْنيفُ الـمُسبقُ.
وإلى تَـمغْربيت أيضا تستنِد السُّلْطة في وجودها وفي شكلِ انتقالِها من “الضّبطِ” إلى “المراقبَةِ”.
فهي تَتَبنَّى الحداثةَ ودوْلَةَ القانون فِي وسائِل إِعْلامِها دُون أن تَمنَع أَذرُعَها الدِّعائيَّة فِي الدِّين وبرامجِ التلفزيون والوصلاتِ الإشهاريّةِ وَفِي تَقالِيد الحُكم، مِن ضَبْط إِيقَاع قِيم الحداثة وأشْكَال تَنزِيل القانونِ وَفْق مَا تُبيحه هَذِه الأذْرع وتسْمح بِه.
ووفق ذلك يُستعاضُ اليوم عن الشَّعْب، وَهُو مَقُولَة سِياسِيَّة، بِمقولة تَـمَغْربيتْ، وهِي مَقُولَة عائمةٌ وفضْفاضةٌ مِن طَبِيعَة تصْنيفيَّة تبْسيطيَّة. يتعلّق الأمرُ وفقها بالتّبشيرِ بديموقراطيةٍ جديدةٍ تُبنى خارجَ محدّداتٍ تتحقّق في التّمثيليّة والمجتمعِ المدنيِّ، أي ضمن ما يَقْتضيه التّداولُ على السّلطةِ.
والحالُ أنّ الديموقراطيّةَ هي فنُّ تَدبيرٍ التعدّد والتنوّع، إنّها لا تتأسّسُ على “إجماع الأمّة”، ولكنّها لا تَقومُ على التشظّي أيضاً، إنّها صيغةٌ حضاريّةٌ تُمكّنُ المفكّرين والفاعِلين السيّاسيين من إعدادِ فضاءٍ ثقافيٍّ قادرٍ على استيعابِ التنوّعِ في المعيشِ وفي الطّقوسِ وفي القناعاتِ العقَديّةِ والفكريّةِ في الوقتِ ذاته.
لذلك قد تكونُ تَـمَغْربيتْ في هذا السياقِ أيضاً وسيلةً من أجلِ اِمتِصاصِ التَّناقضات الاجتماعيّةِ الدَّاخليَّةِ بإِعادة صِياغة الكثيرِ من الحقائقِ بِعباراتٍ لا تُلْغِي الواقعَ، ولكنَّها تُجنّبُ الذِّهْنَ التّفكيرَ في بشاعَته. إِنَّها قَادِرة على تَقدِيم غَطَاء إيْديولوجيٍّ يُبْدِل تسمْياتٍ وأوْصَافاً بِأخْرى أقلّ قسوةً.
ومن أجلِ ذلك كان من الضّروريِّ بلورةُ لغةٍ جديدةٍ تُعيد تسميةَ الكثيرَ من الأنشطَةِ والكيانات بما يَنزعُ عنها كلّ وسمٍ إضافيٍّ من طبيعةٍ اقتصاديّةٍ أو سياسيةٍ.
ستُصبِحُ “الهشاشةُ” حينها بديلا عن الفقرِ، فالأولى تُشيرُ إلى قدَرٍ لا رادَّ له أو إلى قصورٍ ذاتيٍّ، أمّا الثّاني فحاصِلُ توزيعٍ غير عادلٍ للثّرواتِ يجبُ إصلاحُه. وسيُصبح “الـمشْروع” وهو وعودٌ عامة، بديلاً عن “البرْنامج” الذي هو التزامٌ سياسيٌّ، وستكون “الحُقوقُ نفْسُهَا” هي البديلَ عن “المساواة أَمَام القانون”، وتحلُّ “حِمايةُ المسْتهْلكِ” محلَّ “زَجْر الغشَّاشين”، ويُعفينا “تسهيل العيشِ” من “تَغيِير شُروطِهِ”.
وتلك إحدى ” الوَظائِف الأساسيَّة للسّلطةِ، إنّها تَمنَحُ الأشْياءَ التِي تكْرهُها الحُشودُ أَسمَاءً مُحَايدَةً أو لا تُثارُ حوْلهَا الشُّبهاتُ، فالكلماتُ تَملِكُ من القوّةِ ما يجعلُ النَّاسَ يَقْبلون بمَا كَانُوا يرْفضوه قديمًا” .
والحاصِلُ من كلِّ ما سبق هو أنَّ تَـمَغْربيتْ، على عَكْس ظَاهِرها، لا تُوحِّد بين النّاس، إِنَّها تَطمِسُ الخصوصيَّات وتُلْغيهَا أو تُخفِّفُ مِن حِدَّتهَا. يَتَعلَّق الأمْر بِاسْتثارة مَا كان يُسَميه غوستاف لوبون دائماً: “الرُّوح الجماعيَّة”، تِلْك الأنَا الكُليّةُ التِي تُـمكَّنُ مِن مُخَاطبَة الفرْدِ مِن خِلَال انْتمائِه إلى “مجمُوعةٍ” لا تُحَدّدُها مَصالِحٌ اِقْتصاديَّة، كمَا هُو الشَّأْنُ مع الطَّبَقة والِجسمِ الـمِهَنيِّ أو المجْموعة الحرفيَّة، إنّها تَحتمي بمجموعِ الأحكامِ والمواقفِ التي تُعَدُّ ضمانةً على “انسجامِ” الجماعةِ و”تماسُكِها”.
إِنَّها تنظرُ إلى الفردِ باعتبارهِ رقْمًا ضِمْن حُشُودٍ لا تُفكِّر استناداً إلى وقائع محدّدةٍ.
إنّها بذلك لا تثقُ سوى بما يُمكنُ أنْ يَأتي من “انفعالاتٍ جماعيّةٍ” عارضةٍ، أو من “أهواءَ” تتغذّى من الأحكامِ الاجتماعيّةِ أو من أوهامِ العرقِ أو الطائفةِ أو مما يمكن أنْ يُفرَزه الإيمانُ العقَديُّ.
وهكذا يُمكنُ أنْ تتحوّلَ “تَـمَغْربيتْ” إلى مَدخَلٍ نَحْو الشُّوفينيَّة والعنْصريَّة والاكزينوفوبيا، بل قد تكونُ وَسِيلَةً لِخَلق الكثِير مِن الأوْهام حَول ذاتٍ لا تُشْبِه الذَّوَات، وَبذَلِك قد تَكُون مُبَرّراً لِلاضْطهاد والقَمْع وَكُلِّ مَا تحْتاجُه السُّلْطة مِن أَجْل تَبرِير وُجودِها، وهِي أيْضًا وسيلةٌ لطَمْس التَّفاوتات فِي الثَّرْوة والـمعْرفةِ والـمراكز الاجْتماعيَّة. هُنَاك الكثِيرُ مِمَّن يُصنَّفون ضِمْن “تَـمَغْربيتْ” لا شَيْء يجْمعهم بِالـمغْرب وفقرائِه وبسطائِه ولا يمدّون جذورهم في تُربتِه الثّقافيّة.
إنّ الثَّابتَ فِي الوُجود هُو أنَّ الإنْسان لم يَبحَث دائمًا فِي ذَاتِه عَمَّا يجْعله مُتفرِّدًا ومميّزا، لقد فعلَ ذلِك فِي الكثِيرِ مِن الحالاتِ وهو يَمضِي إِلى الآخرِ لِيتعَرَّف على نَفسِه مِن خِلَال مُميّزَات غَيرِه لا مِن خِلَال مَا يكوِّنُه أو يَصدُر عَنْه.
“إنّ خطورةَ التّضليل تكمنُ في أنّه “يتسلّلُ خِلْسَة إِلى ذِهْن النّاس مِن أَجْل إِيداعه رأْيًا أو اِسْتثارة سُلُوكٍ دُون أن يُدْرِكوا أنَّ الأمْر يَتعلّقُ حقّاً بتضليلٍ ” .