*زلة قلم* :
*حينما تريد الدولة تفعيل الدستور: مفارقات ربط المسؤولية بالمحاسبة*
*بقلم عبدالهادي بريويك*
يبدو أن مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، الذي يشكل أحد الأعمدة الدستورية الكبرى في المغرب منذ دستور 2011، لا يزال يعيش بين النص والواقع، بين الشعار والممارسة، وبين الانتقائية والمساواة أمام القانون.
فحينما يُراد لهذا المبدأ أن يُفعّل، تتحرك المؤسسات بسرعة لافتة، وحينما تُرفع الملفات نفسها من جهات أخرى، يغمرها الصمت والتجاهل، وكأننا أمام دولتين داخل دولة واحدة: دولة تتحرك حين يُرفع الصوت من موقع معيّن، وأخرى تصمّ آذانها حين تأتي الدعوة من موقع آخر.
لقد أثارت الساحة السياسية المغربية مؤخرًا مفارقة صارخة، حين نادى رئيس فريق التقدم والاشتراكية بملتمس رقابة وبإنشاء لجنة لتقصي الحقائق في قضية “الفراقشية”، التي كلفت خزينة الدولة ملايين الدراهم، مستندًا إلى وثائق ومعطيات وصفها بالمؤكدة والدقيقة. غير أن الحكومة ـ أو من يمثلها في دوائر القرار ـ لم تُبدِ أي تجاوب يُذكر، وكأن الأمر لا يعنيها، رغم أن مقتضيات الدستور واضحة في هذا الباب، وتُلزم السلطة التنفيذية بالتفاعل الجدي مع كل آليات المراقبة البرلمانية.
في المقابل، ما إن تطرّق رئيس فريق الأصالة والمعاصرة إلى موضوع “الورق والدقيق” حتى تحركت النيابة العامة بسرعة، وفتحت مساطر التحقيق والتتبع، في مشهد يعكس وعياً مؤسساتياً مطلوباً، لكنه في الآن ذاته يطرح سؤالاً مقلقاً: لماذا تتفاعل الدولة ـ بمختلف مؤسساتها ـ بانتقائية في تطبيق مبدأ المحاسبة؟ ولماذا لا يكون نفس المبدأ ساريًا على الجميع، وبالسرعة نفسها، وبالجدية ذاتها؟
*ازدواجية الممارسة وتآكل الثقة*
هذه الازدواجية في التعاطي مع الملفات تضعف ثقة المواطنين في جدية المؤسسات، وتُكرّس صورة مفادها أن المحاسبة ليست مبدأً دستورياً عاماً، بل أداة سياسية تُفعّل عند الحاجة وتُعلّق عند الضرورة.
وهو ما يتنافى مع روح الدستور الذي جعل من ربط المسؤولية بالمحاسبة ركيزة من ركائز الحكامة الجيدة، ومن الضمانات الأساسية لقيام دولة القانون والمؤسسات.
إن خطورة هذا الوضع لا تكمن فقط في غياب الإنصاف بين الفرق البرلمانية أو بين القضايا المثارة، بل في إفراغ الدستور من محتواه القيمي. فحينما يتحول النص الدستوري إلى مجرد إعلان نوايا، وتُصبح المحاسبة رهينة الحسابات السياسية، فإننا نكون أمام خطر تفريغ الدولة من جوهرها المؤسساتي، وتحويلها إلى فضاء للتدبير الانتقائي بدل سيادة القانون.
*تفعيل الدستور.. مسؤولية دولة لا انتقائية سلطة*
تفعيل الدستور لا يعني استعماله كسلاح ظرفي، بل كمرجعية دائمة تُحكم بها السياسات والقرارات.
فحينما يطالب برلماني، أياً كان انتماؤه، بفتح تحقيق أو ملتمس رقابة في ملف ذي شبهة فساد، فإن المبدأ الدستوري يقتضي التجاوب لا الانتقاء.
لأن الرقابة البرلمانية ليست ترفاً سياسياً، بل جزء من الضمانات الديموقراطية التي تحفظ توازن السلط وتُرسخ الثقة بين الدولة والمجتمع.
ولعل التجربة الديموقراطية المغربية، وهي في طور النضج، تحتاج اليوم إلى إعادة الاعتبار للآليات الدستورية التي أُقرّت بعد دستور 2011، وجعلها فاعلة بحق، لا رمزية أو موسمية.
فربط المسؤولية بالمحاسبة لا يمكن أن يُختزل في شعارات، بل يجب أن يُترجم في الواقع، بأفعال واضحة، وبمعايير موحدة لا تفرّق بين حزب وآخر، أو بين ملف وآخر.
*من شعار الإصلاح إلى ممارسة العدالة*
حينما تريد الدولة فعلاً تفعيل الدستور، فإنها تُفعّله في وجه الجميع، بنفس المعايير، وبذات الصرامة.
أما حين يُستعمل المبدأ وفق مقاسات سياسية، فإننا لا نكون أمام دولة تُفعل الدستور، بل أمام سلطة تُعيد تأويله بما يخدم مصالحها.
إن المغاربة اليوم لا يحتاجون إلى خطابات جديدة عن ربط المسؤولية بالمحاسبة، بل إلى ممارسة مؤسساتية نزيهة، شفافة، عادلة، تُعيد الثقة في المؤسسات وتُثبت أن الدستور ليس وثيقة زينة، بل عقد اجتماعي حيّ يربط المواطن بدولته على أساس العدالة والمساواة وسيادة القانون.
