ما العمل يا شباب ؟؟
في خضم الأمواج المتلاطمة التي تعصف بالأمة الإسلامية اليوم في جل المستويات ، الفكرية و الثقافية و الأخلاقية و الاقتصادية و السياسية .. و مع كثرة الجدل و النقاش حول نظريات الإصلاح و مقومات النهضة و الخروج من هذه الأزمة ، يطرح الشباب غالبا و هم في حيرة و اضطراب : ما العمل و ما الحل ؟؟ كيف المخرج و إلى أين المهرب ؟
إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما هو معروف ، و الجواب في نظري غير منفصل عن الواقع بل نابع منه ، فعندما يكون تشخيصنا دقيقا و واقعيا و بعيدا عن عبارات التباهي و الإعجاب ، و عندما يتسم بالصدق في وصف الداء ، حتى و إن كان وصفنا قاسيا و مؤلما ، حينها يتضح الحل من بين كل تلك العواصف ، و يظهر الجواب معلنا عن نفسه .
اليوم نحن في أزمة ، و لا ينكر هذه الحقيقة إلا مكابر أو شخص يطل من علياء المجد الذي عاشته الأمة في لحظة من لحظاتها و يخاله مستمرا إلى اليوم !!! أو قد يكون في حالة نفسية من التفاؤل تجعل الحقيقة المرة محجوبة بحجاب الأمل .
إن وضعنا الفكري و الثقافي و الأخلاقي تغطيه سحائب الصراع و النزاع ، و حواراتنا اليوم لا تخلوا من عبارات التخوين و السباب و الشتائم ، الكل ينظر إلى الكل بمنظار الأحكام المسبقة لا بمنظار قوله تعالى { لتعارفوا } و لا يقوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، سطح أمتنا الفكري نبتت فيه طفيليات التكفير و التبديع و التفسيق ، لا يكاد يخلوا حوار من هذه العبارات التي تنم عن ضيق الأفق و حرج الصدر ، لذلك لا غرابة أن تكون النتائج بحجم الكوارث التي نراها و نسمعها عبر العالمين العربي و الإسلامي ، و لمن يقول أن هذه مبالغات و تخيلات فما عليه إلا أن يسمي لنا دولة من دول الإسلام العظيم تخلوا من هذا النوع من الفكر أو من هذه المشاكل .
جواب السؤال في نظري كما قلت ينبع من التشخيص ، فلقد أنهكتنا الحروب الفكرية الطاحنة منذ القديم ، بل مزقت وحدتنا إربا، فلم نعد نستطيع حصر طوائف الأمة و تعدادها ، و الأدهى و الأمر هو ما يترتب عن هذا التطاحن الفكري من تبعات على مستوى الواقع و السياسة و المعيشة و العمران ، فالمتغلب دائما يقصي الآخر و قد ينتقم منه ، بل يصدر في حقه الفتاوى الشرعية التي مبناها الاجتهاد البشري لا غير ، و التاريخ خير شاهد على حروب الفرق الكلامية و الفتاوى الصادرة في كفر المخالف أو الحكم عليه بالبدعة و الزندقة و التوسع في ذلك حتى قال الحافظ الحكمي في إحدى الأرجوزات المشهورة :
و قيل في الدروز و الزنادقة …. و سائر الطوائف المنافقة
و كل داع لابتداع يقتل … كمن تكرر نكثه لا يقبل .
في هذا الخضم يظهر السؤال ، ما العمل و ما الحل ؟؟ من نتبع من بين كل هؤلاء ؟؟ من هم أهل الحق بحق ؟؟ هل هم السلفيون أم الحركيون ؟ هل هم الإخوان أم السروريون ؟ هل هم أتباع ربيع المدخلي أم محمد حسان أم الرضواني ؟ هل هم الاشاعرة أم المعتزلة ؟؟ هل هم …… أم هم ….. ؟؟ يالله ما هذا الخلط العجيب الذي تعيشه الأمة اليوم ؟؟ الكل ينادي على نفسه بأنه على الحق و يعقد الندوات و المؤتمرات و اللقاءات من اجل استقطاب الشباب إليه و تقوية شوكته حتى يتسنى له تنفيذ مشروعه الفكري و العقدي و الأيديولوجي .
ما العمل ؟؟
لنتصالح مع كتاب الله تعالى ، لنقدس هذا الكتاب تلك القداسة التي تجعله مصدر فكرنا و تفكيرنا و إلهامنا و تصورنا و عقيدتنا و تعاملنا ، بالفعل لقد اتخذنا هذا القرآن مهجورا ، و حاصرناه بتصورات تاريخية و مرحلية و قزمنا صلاحيته لكل زمان و مكان . لنرجع فعلا إلى كتاب الله تعالى و نستخرج غاياته و مقاصده العليا فعلا ، عملا لا قولا ، تطبيقا لا شعارات ، فقد أنهكتنا الشعارات ، نعم ، إننا ننادي بأعلى صوتنا بقوله تعالى { فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } لكننا عند التطبيق تجدنا أغلظ الناس خلقا و أخلاقا و تعاملا حتى إنك لتمر بقوم تسلم عليهم لا يردون عليك السلام !! لأنك ربما حليق أو تلبس سروال طويل أو تنتمي لحزب معين أو تمثل مذهبا فكريا معينا …
نعم تكفينا الشعارات ، فبدل أن نتباهى يقوله تعالى { و إنك لعل خلق عظيم } تجويدا و تطريبا أو تفننا في صناعة الجداريات و اللوحات لابد أن نتمثل هذه الآية فعلا في أخلاقنا حتى نكون خير التلاميذ لخير معلم صلى الله عليه و سلم ، بدل أن يطعن عليه أفضل الصلاة و السلام بسبب أخلاقنا التي دخلت حالة الاحتضار و بدأت تسلم الروح إلى بارئها .
العمل: في القراءة و الانفتاح على الآخر و السماع منه و التدافع من أجل الحقيقة ، فقوله تعالى { لتعارفوا } يقتضي الحوار و التأثر و التأثير و التبادل و المحاكاة ، و لا يعني بأي حال من الأحوال التنافر و التدابر , و إلا لم يكن للآية معنى الشمولية و الصلاحية لكل زمان و مكان .
الجزء 2
العمل : في المعرفة اليقينية أن التاريخ للعبرة و الاستفادة من التجارب و ليس للحنين إليه و تمني الرجوع إليه بحذافيره ، إننا ندرس التاريخ للعبرة ، قال تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } فصاحب اللب السليم يدرك مكامن الخطأ ليتجاوزها و ليس ليثني عليها و يحن إليها لا لشيء إلا لكونها من نتاج قوم يقدسهم و يرى فيهم العصمة أو الصلاح المطلق ، فالصواب صواب و الخطأ خطأ و هذا منهج رب العالمين الذي لا يعرف المحاباة و المناورة .
إن تاريخنا فعلا يمثل جانبا مشرقا من حياة الحضارة الإسلامية ، و هناك فترات عاشتها أمتنا المجيدة وصلت خلالها إلى مستويات راقية جدا من العلم و المعرفة و الفلسفة و الإبداع في شتى المجالات ، لكنها سنة الله أن يزول المجد عند مغيب شمس العدل و القسط ، { و لن تجد لسنة الله تبديلا } . فهل كان ذلك الرقي و ذلك النجاح كرامة من الله تعالى لهذه الأمة و هي راقدة نائمة لا تحرك يد الإبداع و الفكر و العلم و العطاء و إنما لكونها أمة محمد صلى الله عليه و سلم ؟ أم أنها كانت نتيجة لسنة ربانية مفادها الجزاء من جنس العمل ؟ نعم ، إن الجزاء من جنس العمل و لا فرق في ذلك بين صدر الأمة و لا آخرها، قال تعالى { و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون }.
فعندما يشيع الفساد ، مهما كانت أنواعه و تجلياته ، يظهر الضعف و الوهن و يصبح سير الأمة إلى الهاوية ، إنها سنن الله تعالى التي أخبرنا إياها في كتابه الكريم ، لكننا جعلناه وراءنا ظهريا .
العمل : أن نستلهم من التاريخ قيم التسامح و استحضار لحظات العزة فعلا ، حين كان الناس في ظل الإسلام الصافي يعيشون جنبا إلى جنب مع المسيحي و اليهودي ، و كان الناس إثنيات و عرقيات و ملل و نحل يعيشون تحت سقف العدل و القسط ، و ليس تحت سقف التسلط و الجبر ، أحيانا لا أكاد اصدق أننا فعلا صادقون في التغني بالأمجاد ، لقد أصبح يبدو لي أننا ممثلون بارعون في الكذب و الخداع ، ما يهمنا اليوم هو الدعوة إلى الطائفة و الحزب و الفرقة و الاتجاه الفلاني …. و إلا لماذا أصبحنا نستحضر كثيرا تاريخ الحروب و الانتصارات و التوسعات و ما حصل أثناء الخلافة من فتن و نحللها و ندرسها و نبني عليها المواقف و الأحكام ؟ بدل الحديث عن المآثر الفكرية و العلمية و الأخلاقية المشرقة من تاريخ الأمة؟؟ أنا على يقين كبير أن الكثير منا لم يقف عند نص المعاهدة التي كتبها النبي صلى الله عليه و سلم لنصارى نجران و ما فيها من البنود الرائقة جدا و التي تمثل بصدق سماحة الدين و رقيه ،و هذه الوثيقة مثال بسيط جدا من حقيقة حياة النبي صلى الله عليه و سلم ، فلماذا يتم طمر هذه النصوص و نحن في أحوج الحاجة إليها اليوم ؟ لسبب بسيط جدا : لأن نظرية الحرية و السماحة لا تخدم أجندة التوسع و الهيمنة و السيطرة و منهج التكفير ، و بالتالي لو ظهرت هذه النصوص كهذه المعاهدة النبوية العظيمة سنكون مضطرين إلى القول بحرية الاعتقاد و لا إكراه في الدين .. و غيرها من الآيات التي نسخها بعضهم بآية واحد !! آية السيف !!
لاحظوا معي شعارات الإسلام اليوم على القنوات الفضائية ، و لمن يتتبع البرامج الدينية من اجل دراسة واقع الأمة و ليس لتلقي الفتاوى المؤدى عنها ، سوف يجد أن أغلب البرامج تستدعي في عملية الإخراج صور الفرس و السيف و الرايات مثلا ، أو رموزا و صورا لأبطال عرفوا في ميدان الوغى كفرسان و مجاهدين ، أو يقدم للبرنامج بمؤثرات صوتية لصهيل الخيول و قعقعة السيوف أو صوت الدبابات … بل حتى عناوين بعض البرامج مثيرة لغرائز العنف و القوة و الغلظة، من قبيل الصارم البتار ..ّ” و قفوهم إنهم مسئولون” ، و كأن البرنامج ليس للحوار و تبادل الأفكار و إنما جلسة للنطق بالحكم و انتظار التنفيذ . نعم هكذا صرنا نصوغ التاريخ و نستحضره ، بدل الاستفادة منه و الاعتراف بجوانب النقص فيه . و كلامي هذا لا يعني بخس مجهودات بعض القنوات الدينية الراقية فعلا في طرحها و التي تتغيّا الوسطية و الاعتدال ، بل نشد على يديها و ندعوها إلى المزيد من التحرر من سلطة المذهبية التي ترخي بظلالها عليها أيضا .
إن واقع الأمة اليوم في علاقتها بالتاريخ لا يزال واقع حنين بدل كونه واقع اعتبار و عبرة .
مصطفى أمجكال
المغرب