swiss replica watches
ذكرى 18 نونبر بداية النهاية لعهد الحجر والحماية – سياسي

ذكرى 18 نونبر بداية النهاية لعهد الحجر والحماية

ذكرى 18 نونبر
بداية النهاية لعهد الحجر والحماية
***
الجزء الأول

الباحث رشيد ابو تاج
(محمد الخامس ملك المغرب -1929- المصدر موقع غاليكا، تصوير وكالة رول)

في اليوم الثامن عشر من شهر نونبر من كل سنة، تهل علينا ذكرى ارتقاء المغفور له السلطان محمد الخامس عرش أسلافه الميامين، تلك الذكرى التي كان حريا أن تقص خيوط بدايتها سنة 1927، لكن سلطات الحماية البغيضة تجاهلت ترخيص الاحتفاء بهذا الحدث على مدى ست سنوات، وعمدت بمجرد ما تمت المناداة به سلطانا إلى تقزيم دوره الديني والدنيوي بتشكيل مجلس وصاية ترأسه الصدر الأعظم محمد المقري.

وأنُّى للعاهل الشاب أن يعالج مغربا ممزق الأطراف اتسع فيه الخرق على الرّاقع، أنَّى له ذلك ويده مغلولة بأصفاد دولة وصية، ويد أخرى مقيدة بسلاسل مجلس وصي لا يتحرك إلا بإذن إقامة عامة شغلها الشاغل حينها هو زرع الفرقة بين العرش والشعب، وتفتيت وحدته وتغذية الشكوك والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، وبث سموم التخوين في جسد الأمة، وبرغم حيله وخبثه ودهائه لم يدرك الاستعمار مراده ولم يبلغ مقصده.
وإذ نحتفل اليوم بذكرى 18 نونبر لا نجد بدا من استعراض السياق العام الذي انبثقت فيه هذه الفكرة من مسام شباب وطني تطلَّعَ بكل حواسه ومشاعره لأنوار الوحدة ورياح الحرية ونسائم الكرامة.
فكيف كان وضع البلاد بداية ثلاثينيات القرن الماضي؟ وكيف انطلقت شرارة الحركة الوطنية المباركة؟ وكيف انتهت حكومة الحماية مكرهة إلى جعل يوم 18 نونبر عيدا وطنيا رسميا؟

تخليد يوم 18 نونبر
في كل سنة يعود يوم 18 نونبر، وتعود معه ذكرى عميقة الأثر في وجدان كل الشعب المغربي، ذكرى اعتبر سَنُّ تقليد الاحتفال الأول بها وتمجيدها سنة 1933 بداية مرحلة مفصلية حاسمة في تاريخ المغرب لا زالت وشائجها وضاءة في قلوب أبناء المملكة كما لو أنها حدثت للتو.
ونسعد اليوم باستحضار ذكرى مشرقة، نستدعي قيمتها ونستجلي عظمتها، ونفخر من خلالها باستلهام مغزى ملحمة نيرة من ملاحم أرض طاب ثراها بعبير شهداء أبرار لا زلنا نتنفس بأفضالهم علينا عبق حرية ما كنا لنبلغها لولا «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»، شهداء عند ربهم يرزقون استرخصوا دماءهم الغالية في سبيل عزة الوطن أنالهم الرحمان جنة الرضوان.
في الذكرى 88 لتخليد أول عيد عرش في تاريخ الأمة المغربية، ويدعونا الحدث لاستحضار مناقب ملكية رسخت بولاء الشعب ووفائه، وأقامت ألف دليل على أنها ما فكرت يوما ولا عملت إلا لما فيه خير البلاد، ولا سعت ولا ضحت إلا لما يرفع شأنها بين الأمم إلى قمة المجد، ملكية برهنت عن وفائها للوطن بمواقفها التاريخية، وشعب جعل ولاءه لملوكه دينا في عنقه، فسالموا باسم العرش من سالم الجالسين عليه، وعادَوا كل من عاداهم، مسيرة وفاء وفداء زكتها مضامين خطاب الملك محمد الخامس بمناسبة تنصيب الملك الحسن الثاني وليا لعهد المملكة يوم 9 يوليوز 1957:
« … تعرف أن أسلافك الأكرمين ما وصلوا إلى المُلك قهرا ولا اقتعدوا العرش قسرا، وإنما كان تقدمهم إلى السلطان ضرورة دعت إليها مصلحة الوطن العليا “…” فحموا الديار، ونفوا العار، واجتهدوا في رتق الفتوق ورأب الصدوع، وحماية البلاد من المطامع ووقايتها مما يتهددها من أخطار، متعاونين مع أمتهم مقتسمين وإياها الحلو والمر والسراء والضراء. فاحرص يا ولدي على تتميم رسالة أسلافك والمحافظة على الأمانة “…” وكن من الشعب وإلى الشعب
يسعك ما يسعه ويضيق عنك ما يضيق عنه.
“…” واعلم يا بني أن الحكم خطة يبتلي بها الله من يشاء من عباده، فواحد قدرها ورعى بها الحقوق وصان الحرمات، فرجحت بها كفته وكان من المفلحين، وآخر بَطِرَ (استخف) بها وأشر، وطغى واستكبر، فخف بها ميزانه وكان من الأخسرين “…” فكن من الذين رجحت كفتهم، ولا تكن من الذين خفت موازينهم».

عرش سجين وشعب محاصر
منذ احتلالها للقطر الجزائري، نهجت فرنسا استراتيجية التغلغل البطيء في البلاد المغربية، أخصب أراضي المنطقة المغاربية وأغناها ضَرْعاً وزَرْعا، موقع المغرب في الشمال الإفريقي بواجهتيه البحريتين أغرى حكام فرنسا ودفع أحد ملوكها هنري الثالث إلى تعيين السيد بيرارد كأول سفير فرنسي بالمغرب سنة 1577 م.
ومنذ ذلك العهد لم تنم عيون الجواسيس والرحالة والمستكشفين، الذين ألهبت مخيلتهم خيرات المغرب، وخططوا على مدى قرون لدَكِّ قلاعه العاتية وتمهيد الطريق للهيمنة عليه وعلى مدخراته.

الباحث الإثنوغرافي أوغست موليراس في كتابه المغرب المجهول الصادر سنة 1895، أي سنة واحدة بعد وفاة السلطان المجاهد المولى الحسن الأول، لمّح إلى الصعوبات التي أخَّرت اختراق المغرب «المنغلق على ذاته»:
« سنكون مخطئين لو تصورنا أن وكر النمل هذا، الذي يعج بالرجال، لا يتوفر على أفكار ورغبات وأهواء وأنشطة، أو تمثلناه كبلد مصاب ببلادة لا أمل في الشفاء منها…إن المغرب يشبه خلية نحل منغلقة بشكل محكم” ولكي تعرف المغرب لابد” أن تكون نحلا في الخلية لرؤية الحياة النشيطة داخل شبه التابوت هذا» (محمد أقضاض، المناهل 87)
ولما تنامت مطامع دول أوروبا العظمى، استهدفت مخططاتها الاستعمارية حصون وثغور بلادنا، فتسابقت جمعا وفرادى لتضمن لها موطئ قدم بالمغرب الذي حَلَّلَ مؤتمر برلين 1884-1885 استباحته على اعتبار أنه يدخل ضمن
« المجال الضائع»، وعلى طاولة المساومات وُزِّعت الأسلاب واقتسمت الغنائم، وفي 30 مارس 1912 كانت فرنسا قد دشنت بداية إحكام طوقها على عنق المغرب.
يوم 7 يونيو 1912 نصَّبت فرنسا المولى يوسف بن الحسن سلطانا على المغرب، وحتى وفاته يوم 17 نونبر 1927 وعلى امتداد خمسة عشر سنة، عملت سلطات الحماية على بسط نفوذها العسكري والإداري، ولم تترك للملك من نفوذ ولا من مقاليد العرش إلا امتيازات البلاط الظاهرية وهالة التعظيم الجوفاء، في الوقت الذي سارع فيه مقيمها العام الأول هوبير ليوطي إلى تفعيل سياسة «تهدئة« على إيقاع المدافع والبنادق، وتجزير المغرب إلى بلاد المخزن وبلاد السيبة، وتكسير شوكة الغيورين على استقلال ووحدة المغرب، واستمالة زعماء القبائل والأعيان والمحميين، وتشجيع الهجرة إلى المغرب، وتمليك الأراضي الخصبة للمعمرين، وزعت منها 100 ألف هكتار ملكتها في سنوات الاحتلال الأولى
لفائدة 524 أوروبي استقدمتهم للاستيطان به بعشرات الألوف، ووفرت لهم ولأبنائهم كل أسباب الإسعاد من وظائف وامتيازات. وقد سعت فرنسا بهذا، وبكل أوتيت من قوة وحيلة إلى تفتيت الوحدة القومية للمغرب بعدما فتت وحدته الوطنية، فعبأت ساستها الاستعماريين لزرع نيران الفتنة بين العرب والبربر، بغية إضفاء الطابع الشرعي والمؤسساتي على أولى مخططات إلحاق البربر بالحضارة الفرنسية.

(المارشال هوبير ليوطي، على صدره القلادة الكبرى والوسام العلوي، المصدر ويكيبيديا)
سنتان فقط بعد جلوس المولى يوسف على العرش سعى الجنرال ليوطي إلى انتزاع ظهير ملكي مؤرخ في 11 شتنبر 1914 (نشر بالجريدة الرسمية عدد 73) القاضي كمرحلة أولى بفصل التشريعات الإسلامية عن القوانين العرفية البربرية، ويشير نصا إلى أن «القبائل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة». ظهير وقعه الصدر الأعظم محمد بن محمد الجباص، واطلع عليه وأذن بنشره المقيم العام ليوطي.

وتلته فيما بعد ظهائر عَدَّدَتْ «القبائل المتبعة للعوائد البربرية» أولاها ذكرت بذات الجريدة وهي: قبائل بني مطير، جروان، اخلاون، آيت عبدي، وآيت مناصف من بني مكيلد، آيت زكوكو وآيت يعقوب من زيان.
وما أن عرضت على السلطان مولاي يوسف مادتا الظهير المذكور، حتى تأكدت له مخاوف لطالما توجس منها خيفة وكثيرا ما أقضت مضجعه.. مخاوف تؤكد أن مؤسسة الحماية تستعجل فَرْنَسَة وتنصير البربر، وهذا ما دعا له القسيس الكاثوليكي الأب شارل دو فوكو -الصديق الحميم والأب الروحي لليوطي- في مراسلاته الخاصة مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون حين خطط لتطهير «إفريقيا الشمالية» من اللغة العربية وتنحية الإسلام وتعويضهما باللغة الفرنسية والمسيحية، وإدماج البربر ضمن الثقافة والحضارة الفرنسيتين تحقيقا لهذا المبتغى، مما أعطى للبعض مسوغا شرعيا لاغتيال دو فوكو يوم 2 دجنبر 1916، لا بسبب مسيحيته على حد قول جاك فريمو بل لارتباطه ب«الفاتحين» وتواطئه معهم بكل من تونس والجزائر والمغرب.
وصايا دو فوكو لم تجد نفعا، وها هو ماسينيون نفسه يعترف « وكجميع الغزاة والمبتدئين تعاطفتُ جدا مع أطروحة
دو فوكو، وآمنت بضرورة إدماج القبائل البربرية في الكيان الفرنسي المسيحي ، وقضيت سنوات من عمري أعمل بما آمنت به قبل أن يتبين لي خطئي، إذ أصبحت أومن بأن القبائل الناطقة بالبربرية لا يمكن أن تنسلخ بأي حال من اللغة العربية التي تربطها بالله »
أُثْقِلَ كاهل المغرب باتفاقيات قضمت أطرافه شبرا شبرا، وتضافرت جهود جميع الدول الاستعمارية الغربية، وجلها كانت تطمع إما بالاستئثار بالفريسة المغربية ووراثة تركتها بالفرض والتعصيب، أو تتقاسمها فيما بينها على الأقل إن لم يكن من ذلك بد.
وضربت سلطات الحماية طوقا محكما على السلطان وجعلته كُرْهًا سجين قصره « فسياسة الاختراق والتوغل كانت عصية على التحصين التام، وثقل المديونية، واستشراء الإغراء وشراء الذمم واستمالة رجال القبائل وافتعال الفتن كلها انتهت بمغرب منحل مفكك الأوصال»
فقسمت الإيالة الشريفية إلى مناطق ثلاث سلطانية وخليفية ومُدَوَّلَة، وامتدت يد الحامي إلى جسم محمييه، تكتم أنفاس كل من نادى منهم بنصرة الملك وإعلاء لواء الدين، ولم ينج شبر واحد من هذا الجسد المنهك من سهام الجيوش الفرنسية الغازية حتى تكسرت النصال على النصال.
وُضِعَ المغرب حينئذ تحت نظام عسكري صارم بناء على أمر مؤرخ في 2 غشت 1914، ووضع العرش والجالس عليه في ركن قصي من أركان القصر المحاصر.
سنة 1921، كوفئت أكتاف الجنرال ليوطي برتبة مارشال مطرزة بخيوط من ذهب، وضاق صدر السلطان على مآل شعبه بغُمَّة وكرب، لكن المولى يوسف واصل إصراره على مواقفه الرامية إلى توحيد البلاد عرشا وشعبا، والتنديد بكل المناورات الفرنسية الساعية إلى تنصير المغاربة المسلمين بقرارات جائرة شرعت في تنزيلها بداية من 11 شتنبر 1924.
خمسة شهور قبل رحيله، أنهى السلطان مفاوضات عسيرة مع المقيم العام تيودور ستيغ خلص فيها ممثل فرنسا إلى «أن السلطان يعتبر في المغرب الأب الروحي للجماعة الإسلامية والإمام الحامي للتشريع الإسلامي، فلا يمكن أن يقبل أن يصدر عنه أي تشريع يهدم أركان الدين، أو يمس بسلطته على مجموع البلاد، وهذه مسألة لا يقبل فيها السلطان تساهلا ولا يجيز لنا فيها معارضة».

الظهير البربري
16 ماي 1930

( تنصيب السلطان محمد الخامس بتاريخ 18 نونبر 1927، المصدر غاليكا، تصوير وكالة رول )
يوم الخميس 17 نونبر 1927 على الساعة التاسعة والنصف، بقصر فاس وفي ظروف غامضة أسلم مولاي يوسف بن الحسن الروح إلى باريها، وفي يوم الغد وُلِّيَ السلطان مولاي حمادة عرش البلاد يوم الجمعة 18 نونبر، وقد أوجز المفكر السياسي روبير مونطاي بكتابه «المغرب في ثورة» أسباب تفضيل فرنسا لتنصيب السلطان سيدي محمد بن يوسف بالعبارة التالية «إنه مدين لنا بعرشه ومملكته وحياته، لقد داويناه من مرض خطير» ( محمد الخامس – مصطفى العلوي- ص 46)؛ وربما لهذا السبب لم يحتط المقيم العام تيودور ستيغ من اعتلاء الملك الشاب عرش بلاده، خاصة وأنه في سن الثامنة عشر لا يمكن إلا أن يكون إلا طري العود سَهْلُ الانْقِياد.. لكن عواصف المناورات الاستعمارية سرعان ما صهرت معدن السلطان الشاب وقَوَّت شكيمته.

(المقيم العام تيودور ستيغ، 1926، المصدر ويكيبيديا)

ولبسط نفوذ فرنسا على البلاد كان لزاما على المقيم العام الثالث استيفاءً لمبتغى مسخ الهوية المغربية أن يسارع إلى إحداث أول شرخ في نسيج وحدة الانتماء للمغرب عبر إصدار الظهير البربري يوم 16 ماي 1930،
الذي يقضي بشطر لحمة البلاد إلى نصفين، عُهِدَت بموجبه لسلطان المغرب المنطقة الناطقة بالعربية، فيما استأثرت سلطة الحماية بالمنطقة البربرية، قاصدة بهذا إضعاف شوكة المغاربة وإذابتهم في كيان حلم فرنسا الكبرى.
ظهير يقضي بأن «المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات العوائد البربرية بأيالتنا الشريفة والتي ينظر فيها القواد في نواحي مملكتنا السعيدة يقع زجرها هناك من طرف رجال القبائل. والدعاوى المدنية أو التجارية والمختصة بالعقارات أو المنقولات تنظر فيها محاكم خصوصية (تعرف بالمحاكم العرفية) إبتدائيا ونهائيا»
ظهير مدبر، دسَّ سهام حروفه بالسُّم الزّعاف دهاقنة الاستعمار على منوال مخططهم الجهنمي الرامي إلى تمزيق وحدة البلاد، ونسبوه بخبث نية إلى السلطان، في حين ألا شيء يؤكد أنه هو من أمضاه، ولا يشك المفكر أستاذنا الراحل عبد الهادي بوطالب في كون البطانة الوزارية التي كانت بجانب السلطان هي التي تتحمل وزر هذا الظهير، وهذا ما أكده المرحوم عبد الله الجيراري في كتابه «شذرات تاريخية» بقوله أن الإدارة الفرنسية هي التي نظمت مواد الظهير ثم دفعته إلى رئيس الوزارة محمد المقري الذي أمر بتسجيله بدفتر الصدارة العظمى وذَيَّلَهُ بخَتْمِ السلطان الذي كان تحت يده، لأن صاحبه كان تحت الوصاية منذ وفاة والده» (عبد الهادي بوطالب : ذكريات وشهادات ووجوه).
وفي ذلك الوقت، لم يكن السلطان سيدي محمد قد تسلم الطابع السلطاني من يد الصدر الأعظم الحاج محمد المقري، فهو الذي وقع به الظهير عام 1930م، ولم يسلم الصدر الأعظم الطابع لجلالة السلطان حتى سنة 1932م، بعد احتجاج صارم من جلالته قائلا له: إذا كان عمي السلطان مولاي عبد العزيز الذي تولى الملك وعمره عشر سنوات تسلم طابعه، وكل ما يتعلق بشؤون الملك، فإلى متى سأبقى تحت الحجر؟» ( مقتطف من مقالة للأستاذ عبد الوهاب بن منصور في مجلة دعوة الحق عدد 282 ).

(الظهير البربري يوم 16 ماي 1930 ، المصدر الجريدة الرسمية عدد 918)

وهذا واقع عززه خبر تولية السلطان مولاي حمادة على عرش المغرب الذي نشرته جريدة لوفيغارو الفرنسية يوم
19 نونبر 1927، بالإشارة إلى أن العلماء على العادة الملكية تداولوا فيما بينهم أمر اختيار السلطان الجديد ولم يحسموا في أمره حتى الساعة الرابعة و 20 دقيقة زوالا، وتم الاتفاق على أن يحمل السلطان الجديد إسم مولاي محمد، وقرروا بحكم سنه الذي لا يتجاوز الثامنة عشر إلا ببضعة شهور أن يبقى السلطان تحت وصاية مجلس الشعب الذي أسندت رئاسته للصدر الأعظم محمد المقري.

(جريدة لو فيغارو، وجريدة لو بوتي باريسيان بتاريخ 19-11-1927)
وعن مسؤولية المقيم العام السابق في السياسة البربرية نشر الكاتب محمد حصار ردا بمجلة «المغرب» قال فيه:
« ولكني أظن أن المشير ليوطي ما كان ليوقع على ظهير 16 ماي 1930 كما هو، وإن كان يطابق الأسلوب الحكومي الذي أقامه هنا فقد يحتوي على محاولة فرنسية لا تتفق هي وأفكاره، ولا شك أن الأغراض الشخصية – للمقيم العام لوسيان سان- هي التي كانت أكبر باعث على استصدار الظهير المذكور..»
وبمنطقة الشمال، ومنذ صدور ذلك الظهير المشؤوم والأحداث التي تلته أصرت الهيئة الوطنية على إحياء ذكراه كل سنة، إلا أن سلطات الحماية الإسبانية قابلته بقرار المنع الذي أصدره المقيم العام خوان موليس أورميلا في الذكرى الثالثة ، حيث نجد الأستاذ عبد الخالق الطريس في يومياته ليوم 25 أبريل 1933، يشير إلى اجتماع لجنة أطلق عليها إسم «16 ماي» والذي تقرر فيه الوقوف ضد قرار المنع، أمر أكده مطبوع النداء الذي سيوجه إلى الشعب المغربي ، والذي عهد به المناضل الحاج عبد السلام بنونة لأبيه الطيب بنونة ليعجل بطبعه قبل حلول الذكرى، يخاطب به الشعب المغربي النبيل في آخر فقراته بالقول:
«إلْتَفْ على أبطال وطنك وسِرْ على منهاجهم، وأَظْهِرْ للعالم أجمع أنك شعب حر يعرف معنى الحياة ولا يرضى بحياة الذل والاستبداد، كما لا يسمح للمعتدين أنَّى كانت قوتهم بالاعتداء على الدين الحنيف والوطن المقدس، إذ العصر اليوم عصر الرقي فلا بد من العمل لكسب قضيتنا مهما كلفنا ذلك من التضحيات.

والتاريخ يسجل ذلك بحروف من نور، وتيقن أنك المنصور في النهاية، ماضاع حق وراءه طالب. والسلام» ( أب الحركة الوطنية المغربية، الحاج عبد السلام بنونة، حياته ونضاله، الجزء الرابع)
ورغم كل قرارات المنع عُطِّلت يوم ذكرى الظهير البربري كل المدارس بتطوان ، وأغلقت كل الدوائر المغربية أبوابها، وذكر إسم الله اللطيف في المساجد، وهو دعاء ممنوع في المنطقة الفرنسية، وصام المسلمون ذلك اليوم، ووزعت الصدقات على الفقراء، ووجهت برقيات الاحتجاج إلى جمعية الأمم وإلى رئيسي الجمهورتين الإسبانية والفرنسية.

الجزء الثاني

في اليوم الثامن عشر من شهر نونبر من كل سنة، تهل علينا ذكرى ارتقاء المغفور له السلطان محمد الخامس عرش أسلافه الميامين، تلك الذكرى التي كان حريا أن تقص خيوط بدايتها سنة 1927، لكن سلطات الحماية البغيضة تجاهلت ترخيص الاحتفاء بهذا الحدث على مدى ست سنوات، وعمدت بمجرد ما تمت المناداة به سلطانا إلى تقزيم دوره الديني والدنيوي بتشكيل مجلس وصاية ترأسه الصدر الأعظم محمد المقري. وأنُّى للعاهل الشاب أن يعالج مغربا ممزق الأطراف اتسع فيه الخرق على الرّاقع، أنَّى له ذلك ويده مغلولة بأصفاد دولة وصية، ويد أخرى مقيدة بسلاسل مجلس وصي لا يتحرك إلا بإذن إقامة عامة شغلها الشاغل حينها هو زرع الفرقة بين العرش والشعب، وتفتيت وحدته وتغذية الشكوك والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، وبث سموم التخوين في جسد الأمة، وبرغم حيله وخبثه ودهائه لم يدرك الاستعمار مراده ولم يبلغ مقصده.
وإذ نحتفل اليوم بذكرى 18 نونبر لا نجد بدا من استعراض السياق العام الذي انبثقت فيه هذه الفكرة من مسام شباب وطني تطلَّعَ بكل حواسه ومشاعره لأنوار الوحدة ورياح الحرية ونسائم الكرامة.
فكيف كان وضع البلاد بداية ثلاثينيات القرن الماضي؟ وكيف انطلقت شرارة الحركة الوطنية المباركة؟ وكيف انتهت حكومة الحماية مكرهة إلى جعل يوم 18 نونبر عيدا وطنيا رسميا؟

انبلاج صبح الحركة الوطنية
وشاء الله عكس ما شاءوا حين ألقى في تربة السلطان مولاي محمد بذرة الكفاح الطيبة، فأخذت تنمو وتترعرع حتى استوت واشتدت لائحة تباشيرها بين الحين والحين ، متجلية مخايلها بين الفينة والفينة.
محمد بن يوسف الذي استجمعت له شروط التصدي وتوفرت فيه مؤهلات المواجهة لم يترك فرصة ينتشي فيها بنصر حلم بتحقيقه المقيم العام «سان» «”القديس” الذي لم يحز من القداسة إلا الإسم»، خاصة وأن مخططاته الخفية أثمرت تبلور جنين حركة وطنية، جنين أخذ ينمو في رحم التراب المغربي مع ولادة «جماعة الطائفة» السرية ثلاثة أشهر بعد صدور الظهير المشؤوم، فنادت بإلغائه وشددت على ضرورة توحيد وجعل السلطات بكاملها بيد محمد الخامس ولا أحد غيره.
« وفي يوم الحادي عشر من غشت 1930 م قرئت بمسجد القرويين رسالة من السلطان سيدي محمد بن يوسف يدعو فيها إلى الهدوء والسكينة. ويظهر أن هذه اللقاءات المتكررة بين أعيان فاس وسلطة الحماية، قد شجعت رجال الحركة الوطنية على تحرير مطالبهم وتقديمها إلى سلطة الحماية، وإلى المخزن الشريف، وقد حددت هذه المطالب في ست نقط أهمها :
– إلغاء الظهير البربري، وسائر الظهائر والقرارات التي اتخذت في معناه.
– تكوين قضاء موحد لجميع المغاربة.
– ربط جميع الموظفين الدينيين والمدنيين بسلطة الملك الشخصية.
– ليس في المغرب دين قومي إلا الإسلام واليهودية» (علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي،
ص 174).
ولَكَمْ حَلا حينها لبعض المسؤولين الفرنسيين بالرباط الانزلاق إلى منحدر الاستخفاف ب«حركة إنشاد اللطيف» التي جمعت أرجاء البلاد، والتي نعتها المستعمر استهزاءً «بمدفع اللطيف الفاشل»، فلم يلبثوا أن تبين لهم أنه مدفع من نوع خاص أقوى من المدافع المتطورة، لا تحسب قوته بمدى مكاني، ولا ينحصر مفعوله في ظرف زماني، ولا يقاوم أو يعطل بمدفع مضاد، إذ منذ طلقته الأولى لم تنقطع ثورة المغرب على امتداد ربع قرن ولم تنته إلا بالاستقلال التام والجلاء الكامل؛ وبعدما تم احتلال باريس خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن قصفتها قوات الجو النازية، بعث أحد علماء فاس رسالة إلى مسؤول فرنسي سام يقول فيها «ها هي قذفات مدفع اللطيف التي انطلقت من مساجد فاس سنة 1930 قد وصلت إلى باريس، فاعتبروا» (عبد الهادي بوطالب: ذكريات وشهادات ووجوه)

عيد العرش الأول
18 نونبر 1933
أحداث ووقائع آلمت الشعب المغربي الذي استنفذ صبره، وهو يرى بأم عينيه أن فرنسا زاغت عن مسؤوليتها التاريخية كدولة حامية حين حولت مسلسل التهدئة الذي رفعت شعاره بعد إعلان الحماية إلى مسلسل تصفية وإخضاع أهل المغرب بسلاح لا يرحم، و زاغت فرنسا عن سبيل الصواب حين جرحت السلطان في دينه وشعبه، ولفقت لشخصه أخس التهم، وحبكت لعزل السلطان عن شعبه المكيدة تلو الأخرى، وخالفت بتجزير المغرب إلى بلاد عرب وبربر وبلاد مخزن وسيبة منصوص المادة الثالثة من صك الحماية الذي تعهدت فيه « الجمهورية بتقديم التأييد والدعم للسلطان المغربي ضد كل خطر يهدد شخصه أو عرشه»
واستنادا عليه، ففرنسا الملتزمة في صك الحماية بعدم المساس بكيان المغرب وسيادته ووحدته، تكون قد عبأت من حيث لا تدري كل الشعب المغربي ضدها، وزرعت من حيث لا تحتسب بذور الإرهاصات الأولى للحركة الوطنية، التي فتّحت براعمها فكرة الاحتفال بأول عيد عرش؛ فكرة نسبها الزعيم محمد حسن الوزاني إلى محمد الصالح ميسة، الجزائري الجنسية، صاحب مجلة «المغرب» ولكن جريدة «عمل الشعب» الذي كان ميسة من كتابها السريين هي التي تبنت الفكرة ودعت إليها، بل وعممت تنفيذها على الصعيد الوطني ودعت إلى تعطيل العمل يوم العيد الوطني فوضعت بذلك سلطات الحماية الفرنسية في مأزق واختبار صعب مرغمة إياها على الرضوخ للأمر الواقع.. وفي الوقت الذي لم تستجب فيه سلطات الحماية لهذا النداء وتجنبت الاحتفال بالذكرى متعللة بأن السلطان تلك السنة (1933) كان خارج العاصمة.

(محمد حسن الوزاني وعبد الهادي بوطالب، المصدر محرك غوغل)

عزمت لجان التحضيرات السرية على الاحتفال بذكرى تولية سيدي محمد خلفا لوالده التي لم تخلد خلال سنوات الست الأولى، وقررت الاحتفال بأول عيد عرش يوم 18 نونبر 1933 بمختلف حواضر المغرب الكبرى، تأكيدا لعقد البيعة التي تربط إمام العرش العلوي بشعبه، لكن سلطات الحماية رفضت الترخيص للحفل الذي كان مزمعا تنظيمه بالمناسبة بمقهى بوجلود بفاس واعتبروا المناسبة رمزا للوحدة والتماسك بين جهات المملكة، التي دبر الاستعمار لها كل الحيل والسبل الممكنة ليقسمها شيعا وفرقا متنافرة.
وبعددها الثاني الصادر يوم 20 أكتوبر 1933 دعت جريدة «عمل الشعب» إلى سن تقليد الاحتفال بعيد الجلوس الملكي؛ كما أن قاضي سلا السيد محمد بن ادريس العلوي فكر في الاحتفال بذكرى تتويج محمد الخامس على عرش أسلافه الكرام يوم 18 نونبر من ذات السنة بمدينة سلا.. ورفع القاضي المذكور بالمناسبة برقية إلى جلالة الملك بمدينة مراكش حيث كانت يومئذ إقامته « استدعى القاضي نخبة من عدول المحكمة الشرعية بسلا وهم: الحاج محمد بن الطيب العلوي والحاج محمد بن الحاج علي عواد ومولاي ادريس الجعايدي ومحمد بن العربي معنينو وأبو بكر عواد ومحمد الغربي؛ وأطلق عليهم لجنة الاحتفال ، وطلب منهم إطلاع الباشا محمد الصبيحي على البادرة الطيبة، هذا الأخير الذي رفض بداية تلبية رغبتهم الغير مسنودة بموافقة السلطة الحامية، وأبلغهم بعد نجاح الاحتفال شكر عاهل البلاد على تكريمهم له وعلى برقية التهنئة التي خصوه بها..» ( أحمد السفياني، مقال صادر بمجلة أبي رقراق سنة 1987)، وشاركت بنفس الحفل جمعيات أصحاب الحرف وأرباب المهن داخل منزل القاضي بعيد العرش الأول، وعلى رأي الصحفي الراحل مصطفى العلوي « لم يحتفل بهذا العيد السعيد سنة 1933 أحد سوى جماعة سلا المذكورة»؛ وعكس هذا القول يَسُوقه الأستاذ عبد الهادي بوطالب الذي أكد أن الحركة الوطنية »دشنت الاحتفاء بأول عيد عرش بالحديقة العمومية بفاس، وبحفلتها الوطنية الكبرى رفع الحضور في احتفال غير رسمي لأول مرة العلم المغربي وصور السلطان، وبعثوا هم أيضا بعد نهاية الحفل برقيات التهاني بالعيد إلى سلطان البلاد بإمضاء أفراد الشعب وجماعته».

(برقية تهنئة السلطان بمناسبة أول عيد عرش موقعة من طرف القاضي سيدي محمد بن ادريس العلوي
أصالة عن نفسه ونيابة عن العلماء والعدول وموظفي الوظائف الدينية والمستخدمين بالمحكمة الشرعية)

وبخصوص احتفال سلا بعيد العرش الأول نشرته جريدة «السعادة» بعددها ليوم 23 نونبر 1933
« … ونظرا لما لجلالته من المحبة العظيمة في القلوب، رأى سكان سلا أن يبرهنوا له على المحبة والإخلاص والطاعة بإقامة احتفالات تذكار ليوم جلوس جلالته على عرش المملكة المغربية. وتألفت لهذه الغاية الحسنة، والفكرة المستحسنة لجنة من أعيان المدينة وسراتها. وبمجرد المذاكرة مع سعادة باشا المدينة الحاج محمد الصبيحي الذي أبدا سرورا عظيما للجنة بهذه المشاركة، وشكرهم على عواطفهم نحو جلالة الملك »
وكتبت مجلة « المغرب » في الرباط لمديرها الأستاذ محمد ميسة تحت عنوان: عيد العرش بسلا، في عددها الصادر بتاريخ 14 نونبر 1933 :
« كان العيد بمدينة سلا فوق كل ما كانت اللجنة تظنه قد يكون، فنودي بالعيد في الأسواق، وزينت المدينة بكل ما في وسعها الإعلام المغربية مرفوعة بكل جهة، ولم تطلع شمس يوم السبت 18 نونبر 1933 حتى كانت المدينة لابسة حلة العيد ، المدارس معطلة، والدكاكين والمخازين كلها محلاة بالألوان المغربية: الأحمر والأخضر على عادة المغاربة القديمة، .. وقد أقامت الحرف نزهات.. كان أفخرها نزهة أقامها كبار تجار القيسارية في سوقهم بتكريم الشبيبة الوطنية بين الحرير والوشي والرايات المغربية».
وكتبت جريدة « عمل الشعب» الغراء التي كانت تصدر بالفرنسية بفاس لمديرها الأستاذ محمد حسن الوزاني:
« فلقد استدعى الشبيبة الوطنية بفاس للتجمع في بستان أبي الجنون، قهوة« جنان السبيل»، ورغم تهاطل الأمطار، وعصف الرياح، امتلأت رحاب جنان السبيل بالشباب المطربش والمعمم، واستعيرت المقاعد بكثير من المقاهي أخرى، لكثرة الواردين، وبقي عدد عديد وقوفا، وكان الخدام يسقون الحاضرين، الشاي والقهوة، على حساب صندوق« عمل الشعب» الفيحاء والكل يحمل ألوية صغيرة «راية المغرب » يلوحون بها وينشدون النشيد الرسمي الملكي لذلك اليوم الخالد، لمنشده الأستاذ محمد القرى». والذي مطلعه
أيها الشباب هبــوا *** إنكم روح النشاط
ولتحيوا في سرور*** وابتهاج واغتباط
ملكا يُحَيِّي البلاد
كما نشرت «مجلة السلام» الغراء التي تصدر بتطوان لمديرها الأستاذ محمد داوود تحت عنوان « حفظا للتاريخ »
ما يلي: « ..وقد سَرَّنَا بنوع خاص ما قامت به اللجنة المراكشية ، من إطعام آلاف الضعفاء والمساكين، وإكساء المئات منهم، وهي مكرمة تستحق الثناء عليها، وسنة حسنة جدا لو انسج على منوالها في الأعياد المقبلة بحول الله. وإقامة حفلات عيد العرش لم تعرف في هذا القطر قبل هذه السنة إلا أنها عادة ينبغي أن تتبع في كل سنة لما فيها من البرهان القاطع على إخلاص الأمة والتفاف سائر طبقاتها حول سلطانها الذي هو رمز سيادتها ووحدتها، وعلى تعلقها بعرش مملكتها وحافظ كيانها ..».

الحركة الوطنية والاحتفال بعيد التذكار الأول
18 نونبر 1934

(القرار الوزيري المؤسس بموجبه عيد التذكار
المؤرخ في 26 أكتوبر 1934)

خلال ماي من سنة 1934 كشفت الإدارة الاستعمارية عن نيتها المبيتة في عزل السلطان عن شعبه حين قيامه بزيارة رسمية لمدينة فاس فاعتبرها الوطنيون فرصة لاستقباله والإعراب له عن ولائهم في مظاهرات شعبية غصت الشوارع، وعلت أقواس النصر، وارتفعت الأعلام في كل حي، ولحنت الجماهير نشيدا أعده بالمناسبة الزعيم علال الفاسي، ومطلعه:
يا مليك المغرب *** يا ابن عدنان الأبي
نحن جند للفـــدا *** نحمي هـــذا الملك
عرش مجد خالد *** ماجــــد عن ماجد

وأصدر الزعيم محمد حسن الوزاني عددا خاصا لجريدة «عمل الشعب» محلَّى بصورة السلطان وصورة ابنه الأمير مولاي الحسن، وكان المشهد رائعا حين التحم الشعب بملكه ساعة دخوله الرسمي لفاس في مشهد رائع لم يسبق له نظير..
وارتفعت الأصوات المطالبة بنصرة الملك واسترجاع الحق المغربي المسلوب، وتحولت الزيارة إلى مظاهرة احتجاج وحركة مطالب وإدانة للاحتلال، سقطت فيها الحواجز بين السلطان وشعبه، ووصل خطابها بدون رموز إلى أعماق الفكر الاستعماري الفرنسي الذي أخذ يحسب لهذا الالتحام ألف حساب.
فعيد العرش الذي فرض الشعب المغربي على الحماية الفرنسية إعلانه عيدا قوميا يقول الأستاذ بوطالب « أصبح عيد تحدي الوطنيين للاستعمار الفرنسي الذي أخفق في محاولة عزل السلطان عن شعبه ورعيته مثلما فشلت تدابير قمع هذا الاستعمار في محاولة إقبار الحركة الوطنية في مهدها »
ومن تدابير القمع الصارخة أن ألبس الجنرال “ماركي” حاكم ناحية فاس للسلطان تهمة تحريض المتظاهرين على الهتاف بسقوط فرنسا وتمريغ عَلَمِهَا الوطني بالتراب، وطالبت الإقامة العامة بإلغاء الصلاة الرسمية بالقرويين وقطع زيارته لمدينة فاس، والعودة فورا للرباط، وإلا شملت الاعتقالات كل رجالات الوطنية.
لكن السلطان فضل عدم التضحية بأفراد شعبه الأحرار وعاد في نفس اليوم إلى العاصمة الرباط، فأصدر المقيم العام هنري بونصو بُعَيْدَها بلاغا كاذبا يفيد أن السلطان انزعج من مظاهرات فاس فآثر العودة إلى الرباط؛ بلاغ زائف تصدى له الوطنيون مجددين ولاءهم وتعلقهم بالعرش العلوي المجيد.
وبالنهاية، وفي ظل هذه الظروف المتوترة لم تجد سلطات الحماية بدا من الاستجابة لمطلب إضفاء الصبغة الرسمية على الاحتفال بذكرى عيد العرش، موافقة على مضض على ترسيم هذه المبادرة الوطنية الشعبية، فصدر بتاريخ
31 أكتوبر 1934 قرارا من الصدر الأعظم محمد المقري أشّر عليه المقيم العام هنري بانصو يجعل من يوم 18 نونبر من كل سنة عيدا لتخليد تذكار تربع جلالة السلطان على عرشه أسلافه الميامين. قرار أنشر نصه نقلا عن الجريدة الرسمية:
الحمد الله وحده، قرار وزيري، يؤسس بموجبه عيد التذكار.
يعلم من هذا الكتاب بوجود سيدنا أيده الله أن جناب المخزن الشريف أمر بما يأتي:
الفصل الأول
يؤسس اليوم الثامن عشر من شهر نونبر عيداً لتذكار صعود جلالة السلطان على عرش أسلافه المقدسين ابتداء من هذه السنة فصاعدا.
الفصل الثاني
يقوم باشا كل مدينة من مدن الإيالة الشريفة بتنظيم الأفراح الجارية في عهد السلاطين المقدسين بمناسبة فرح بفتح، أو حادث سار يحدث بذاتهم المنيفة أو مملكتهم الشريفة وتشمل على:
أولا – تزين المدن
ثانيا – الطرب في الأسواق
ثالثاً – تفريق الثياب والطعام على يد الجمعيات الخيرية
رابعا- يوم عطلة لسائر موظفي المخزن الشريف
الفصل الثالث
أما العاصمة التي يحل الجناب الشريف فإن بعض أعضاء اللجنة البلدية أو الموظفين أو الأعيان يتوجه تحت رئاسة الباشا للقصر العالي لتقديم مراسيم التهاني للجناب العالي وذلك بالنيابة عن أهالي المدينة.
الفصل الرابع:
لما كان الغرض في تمام المحافظة على العوائد، ولِئَلاَّ يحدث بسبب هذا العيد المؤسس ما يمس بالحياة التجارية أو الإدارية في المملكة الشريفة يقرر بأن أفراح العيد لا تجاوز يومه ولا تتعداه إلى غيره، كما أنه لا تكون خطب ولا أوفاد الناس، والسلام
وحرر بالرباط في 16 رجب 1353 الموافق 26 أكتوبر 1934
محمد المقري
اطلع عليه وأذن بنشره
الرباط 31 أكتوبر 1934
المفوض المقيم العام هنري بونصو

وعلى عهد نفس المقيم العام سجلت الحركة الوطنية بتنسيق مع زعيم الأمة وثيقة ميلادها كمنظمة تعارض تقسيم المغرب وترفض إلحاقه بوزارة ما وراء البحار، كما رسخت موقعها كحركة إصلاحية تطالب بالتعجيل بإدخال إصلاحات جادة تعهدت بها فرنسا ضمن مقتضيات عقد الحماية وأفرغتها إلى ذلك الحين من كل معنى، خاصة تلك المتعلقة بمجال الحريات العامة كمرحلة أولى لاستعادة سيادة المغرب وتثبيت وحدته وتجذير قيمه التاريخية.
فلم يتردد السلطان المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه في تفجير جذوة حميته الوطنية الصادقة في وجه مقيم فرنسا أوغست غيوم، أشرس وألذ أعداء البلاد إبان الحماية والذي امتدت أياديه الأثيمة إلى الجالس على العرش الشهير بقولته الدنيئة «الاستقلال أفعى استطعت أن أهشم رأسها»، فسطر سلطان الجهاد والاستقلال في وجه ذلك الجلاد السيء الذكر يوم تعيينه روح عقد البيعة التي تجمعه بشعبه الوفي وقال « أكبر واجب علينا، بصفتنا عاهل البلاد أن نواصل الجهود، مستعملين كل قوانا لنصل برعايانا إلى تحقيق مطامحهم، حتى يدرك المغرب المكانة التي يؤهله لها تاريخه المجيد، ونظن أننا لن نألو جهدا في القيام بذلك الواجب قِبَلَ البلاد والعباد، منذ أن يسر لنا البارئ جل جلاله الصعود على عرش أسلافنا المنعمين ولم يكن لنا اهتمام بغير هذا السعي، الذي إن أخللنا به نعد أنفسنا مقصرين في حق ذلك العرش المجيد، ومخالفين لسيرة مؤسسيه الأنجاد، الذين دعموا قواعده المتينة، بأعمالهم المتواصلة، وإخلاصهم للصالح العام، ونزاهتهم الكاملة » ( كلمة استقبال الجنرال كيوم بعد تعيينه ممثلا لفرنسا لدى جلالته الشريفة، جريدة «منبر الشعب» العدد 627 بتاريخ 7 أكتوبر 1951)
قيل قديما «من فات قديمه تاه» ونرد بأن هده المقولة قد تصدق على بعض بلاد العالم وقطعا لن تصدق على المغرب المعتز على الدوام بتاريخه ورموزه ورجالاته..
‏فمن لا تاريخ له لا حرية له، ومن لا يملك حريته لا يملك قراره ولا يصنع مجده؛ مغرب الأمس مهد بكفاحه طريق المجد، وجيل اليوم سيكمله بكل ما يملكه من قوة وعزيمة وإصرار بعون الله وبتوفيق منه..
ولا زال مغرب اليوم بعرشه والجالس عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس سائرا على الدرب وفيا للعهد، حريصا على تلاحم الأمة بكل أطيافها مع ملكها، والتفاف مختلف فئاتها وشرائحها حول رمز وحدتها، وترابطها المتين بباني صرح الحداثة والانفتاح والنماء، مقتفيا هدي بطل التحرير جده المقدس جلالة الملك محمد الخامس طيب الله مثواه، مقتديا بباني المغرب الحديث والده المنعم جلالة الملك الحسن الثاني أكرم الله مثواه، مستمسكا بالعروة الوثقى التي لا انفصال لها بين عرش وشعب، رافعا لواء الدين على منهج جده الأكرم خير البرية وخير البشر نبينا محمد عليه أزكى الصلاة والسلام.

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*