swiss replica watches
أنا أيضا كان لدي كفيل – سياسي

أنا أيضا كان لدي كفيل

كتبها: احمد الدافري

 

أنا أيضا كان لدي كفيل.

في يوليوز 1993، كان ممكنا أن أوقع عقد عمل مع وزارة التعليم بسلطنة عمان، كي أشتغل أستاذا للرياضيات هناك في التعليم الثانوي، بحكم أنني كنت حينها أعمل أستاذا للسلك الثاني بثانوية وادي الذهب بأصيلة..

زميل صديق أستاذ للرياضيات في الثانوية نفسها كان قد سبقني إلى العمل هناك في سنة 1992، وكنت أرغب في أن أخوض التجربة مثله.
تجربة اقتنعت أنها ستسمح لي بالاطلاع على أشياء لا أعرفها.

لكن واجهتني مشكلة.
كنت أشتغل حينها في أصيلة على عمل مسرحي ضمن جمعية اللقاء المسرحي، عنوانه “مجنون الحي المنسي”.
كنت مكلفا بإخراج العمل، الذي أعددته عن مجموعة قصصية للأديب المغربي محمد الدغمومي عنوانها “الماء المالح” كانت قد صدرت سنة 1988.

لم يكن ممكنا أن أتخلى عن تعب الكتابة، وعن الجهد الذي بذلناه في التداريب، مع ممثلين وممثلات من بين أعضاء الجمعية، وأتوجه إلى الرباط لإجراء اللقاء مع ممثلي وزارة التعليم العُمانيين، كي أصبح عاملا ضمن بعثة الأساتذة المغاربة في سلطنة عُمان.

أزلت من ذهني فكرة العمل في سلطنة عُمان، وانخرطت رفقة زملائي في التحضير للمسرحية، قبل أن نعرضها في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في إطار موسم أصيلة الثقافي الدولي..

في تلك المسرحية كنت قد شخصت دور معلم في حي شعبي، يثق فيه أهل الحي، لكنه سيصبح مساعدا لأحد مرشحي الانتخابات الأثرياء من ذوي المستوى الدراسي الضعيف، فيدخل في صراع مع شاب مثقف من الحي، مناوئ للمرشح الثري، يقلقه في حملته الانتخابية، من خلال كتابة شعارات وعبارات ضده بواسطة الفحم في جدران الحي، فيُتهم بأنه مجنون، ويحاول المرشح الثري أن يُبعده عن الحي.

دور الشاب المثقف، أو مجنون الحي المنسي، كان قد أداه الأستاذ عبد العزيز الجباري، الذي كان حينها تلميذا في قسم الباكالوريا، والذي هو حاليا محام بهيئة طنجة، وقد أصبح فيما بعد هو النائب الأول لرئيس المجلس البلدي لأصيلة، ثم بعدها أصبح عضوا في مجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة.

في شهر يونيو من السنة الموالية، أي سنة 1994، كانت قد بلغت ازمتي المالية أقصى مداها.

أصبحت مدينا للبنك بقرضين اثنين، وكنت أسكن وحدي في بيت أكتريه بمبلغ 1500 درهما، ولم يكن يبق لي من الراتب سوى بعض الفُتات، كي أتدبر متطلبات العيش.

كانت حياتي قد أصبحت صعبة. ولم أكن أحاول البحث عن دخل إضافي بإعطاء ساعات الدعم للتلاميذ الذين كانوا يطلبون مني ذلك في القسم.

لا أعرف لماذا كنت أرفض في تلك الآونة أن أعزز راتبي الشهري بمبالغ أخرى مقابل إعطاء دروس إضافية للتلاميذ مؤدى عنها.
ربما لأن وقتي خارج القسم كنت أخصصه كله للجمعية، رفقة زملاء آخرين كانوا معي فيها، منهم الأستاذ الصديق الراحل محمد عنان الذي كان مشرفا على خلية مسرح الطفل بالجمعية.

في نهاية الموسم الدراسي 1993/1994، توصلنا في ثانوية وادي الذهب بالمذكرة الخاصة بالعمل في سلطنة عمان، مرفوقة بمطبوع الطلب.

لم أتردد.

عبأت الطلب وأعطيته للإدارة.

كنت مستوفيا للشرط الأساسي كي يحظى طلبي بالقبول، المتمثل في التوفر على خبرة خمس سنوات في التدريس.

كنت في نهاية ذاك الموسم قد أمضيت سبع مواسم دراسية في تدريس الرياضيات لأقسام السلك الثاني.

ركبنا طائرة الخطوط الملكية المغربية، يوم 22 غشت 1994، من مطار محمد الخامس.

التقيت في المطار بعدد من الأساتذة الذين كنت أعرفهم.
كانت الرحلة مباشرة.

قضينا حوالي تسع ساعات في السماء.

كان وقتذاك ممكنا للراكبين أن يطلبوا مشروبات من مضيفات الطائرة، فيحصلون عليها مجانا.
منها المشروبات الكحولية.

في منتصف المسافة كنت قد شربت بعض الكؤوس.
بل زجاجة أو زجاجة ونصف من النبيذ الأحمر.

عندما أعلن قائد الطائرة بمكبر الصوت أننا نمر فوق أراضي المملكة العربية السعودية، وبخني ضميري.
ما كان علَي أن أحتسي النبيذ.
لكن الشيطان لعين.
سامحني الله.

عند نزولنا في مطار مسقط الدولي، كان رأسي يدور.

كنت أحبس تنفسي كي لا تنبعث من فمي رائحة النبيذ.

وجدنا في انتظارنا أفرادا من هيئة الكفيل المتكفل بنا في سلطنة عمان.
وكفيلنا لم يكن شخصا ذاتيا، بل كان هو وزارة التعليم.
.
كان الوقت ليلا حين وطأت قدماي أرض سلطنة عُمان في المطار.
هبت عليَ لفحة حر شديدة، خِفت معها أن أذوب وأن أتحول إلى ضباب.

استقبلنا أفراد هيئة الكفيل، وهم يرتدون دشداشات زرقاء سماوية اللون وعمامات مزركشة يسمونها “المصرّ”.
أخذوا منا جوازات سفرنا، ورافقونا نحو مكاتب المراقبة الأمنية، وبعدها أخذنا حقائبنا وخرجنا إلى ساحة تجمعت فيها عدد من السيارات الكبيرة يسمونها “الباصات”، وشرعوا يوزعوننا عليها كي تلتحق كل مجموعة منا بالمحافظة (الولاية) التي سيتم تعيينها في مديرية التعليم التابعة لها.

نعم. الأمر يتعلق بعملية توزيع.
كلمة التوزيع هي المستعملة هناك، بدل كلمة التعيين.

وزعوني أنا في محافظة الباطنة الجنوبية، التي توجد فيها مديرية التعليم بمدينة الرستاق.
هكذا هو اسمها. الرستاق.
كل مجموعة من الأساتذة كان مكلفا بها موظف من الوزارة، على أساس أن يرافق المجموعة إلى المحافظات التي تم توزيعها عليها.

جواز سفري لم يعد في ملكي.
لقد أصبح في ملكية الكفيل.

قبل أن نركب الباصات كي نتوزع على المحافظات، قال لنا موظف وزارة التعليم المكلف بمرافقتنا بأنه يمكننا أن نذهب إلى المسجد الذي كان موجودا قبالة ساحة الباصات، وأن نتوضأ، وأن نصلي صلاة العشاء، قبل أن نغادر في اتجاه المحافظة.

كل الذين كانوا معي في المجموعة توجهوا إلى قاعة الوضوء بالمسجد.

تبعتهم.

كان رأسي يدور.
وكانت تنبعث من فمي رائحة النبيذ.
وكان الحر شديدا.
وكنت أنتعل حذاء رياضيا.
سبرديلة من النوع الجيد تحتها جوارب جديدة.

دخلت مكان الوضوء.
أزلت حذائي وجواربي وتوضأت.
كان الماء ساخنا.
بعد المضمضة بقيت ملوحة في فمي.

يا إلهي.
أي موقف هذا الذي أنا فيه !.

قررت أن أصلي وأن يكون هذا أول يوم أعود فيه إلى الله سبحانه وتعالى.

بعد إقامة الصلاة بدأت استمع بخشوع إلى الإمام وهو يرتل القرآن بصوت جميل.

بعدها ركعنا، ثم وقفنا، وقلنا ربنا ولك الحمد، بعد أن قال الإمام سمع الله لمن حمده.

يا إلهي. ماذا أفعل هنا؟.

سجدنا.
بقيت ساجدا وأنا أردد : اللهم اغفر وارحمني إني كنت من الخطّائين. ربي اعف عني واجعلني من أهل التقوى ومن عبادك الصالحين.

أنهى الإمام السجدة وقال الله أكبر.

لم أتذكر ما يجب أن أفعل بعد نهاية السجدة.

رفعت رأسي قليلا كي أرى ما يفعله المصلون.
ففعلت مثلهم.

أنهيت صلاة العشاء.

ذهبت إلى الباص الذي كانت حقيبتي الكبيرة موضوعة فيه.

جلست في مقعد في آخر الباص.

المسافة بين المطار وبين الرستاق هي حوالي 130 كلم.
رغم أن الهواء في الباص كان مكيفا، كنت أشعر بأن شيئا ما ساخنا يلفحني في دواخلي.

أغمض كل من في الباص عيونهم واستسلموا إلى النوم.
إلا أنا.
كنت أبكي دون أن يسمعني أحد.

بكيت بحرقة.
لأني فطنت أنني سأصبح مغتربا.
بعيدا عن أمي وإخوتي.
وهذا ما كان.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*