مبادرة ملكية من أجل الساحل
مبادرة ملكية من أجل الساحل
نوفل البعمري
وزراء خارجية دول بوركينافاسو، مالي، تشاد، النيجر، يعلنون، يوم السبت 23 دجنبر 2023 من مراكش، بشكل رسمي، عن انخراط بلدانهم في المبادرة التي أعلن عنها الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء، والمتمثلة في فسح المجال أمام دول الساحل ليكون لها ممر وعمق أطلسي تستطيع من خلاله أن تلج المحيط الأطلسي، مع ما سيوفره هذا المنفذ المغربي لهذه الدول من إمكانات مادية، وبنية تحتية وطرقية ومينائية في إطار المقاربة التي حددها وأطرها خطاب المسيرة الخضراء لـ 6 نوفمبر 2023، بحيث أعلن جلالة الملك أن هذه المبادرة تهدف إلى مواجهة مشاكل وصعوبات دول منطقة الساحل الشقيقة، والتي «لن يتم حلها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط؛ بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة…». هذه الفقرة من الخطاب الملكي تعتبر المفتاح الذي دفع هذه البلدان إلى الإعلان من مراكش عن الانخراط في المبادرة ودعمها لأنها مقاربة لا تعتمد فقط على التعاطي الأمني والعسكري معها ومع منطقة الساحل، ولا تنظر إلى هذه البلدان بمنظار» أمني» لا يرى فيها سوى كونها تشكل «تهديداً أمنياً» للمنطقة، بل يعتبرها بالنَّظر لموقعها الجغرافي قادرة على خلق قطب اقتصادي وتنموي يتحقق بالتعاون والتضامن المطلوبين بين المغرب ودول الساحل لتشكيل قطب رحى اقتصادي يحقق الرخاء لشعوب هذه الدول، لأن هذا هو المدخل الوحيد والأساسي لمواجهة الإرهاب الذي يريد ضرب هذه المنطقة وتحويلها إلى بؤرة تمركز لها.
المقاربة الملكية لقيادة دول الساحل نحو التقدم والتنمية، تأتي في سياق ما تشهده المنطقة من تحولات عميقة وكبيرة ذات بعد استراتيجي، خاصة مع الانتقالات التي تعيشها هذه الدول وأنظمتها، وهي انتقالات مؤسساتية يهدف المغرب إلى جعلها انتقالات وتحولات تدفع هذه الدول لتضع نفسها على سكة التنمية والديموقراطية، ويفك عنها العزلة الجغرافية بربطها بالمحيط الأطلسي وبجعل الجنوب المغربي بوابتها نحو العالم، سواء في اتجاه القارة الأمريكية أو اللاتينية، مع ما سيوفره ذلك من إمكانات كبيرة لهذه البلدان تجارية كانت، اقتصادية أو سياسية، وهي إمكانات سيتيح لها المغرب بالمقاربة التي وضعها الملك، تحقيق الاستقرار ليس فقط لهذه الدول بل للمنطقة ككل، والتي مع نجاح هذا المشروع الملكي الكبير سيجعلها تنتقل من نقطة ظلت تشكل عامل تهديد إلى نقطة تعتبر عامل استقرار وجذب اقتصادي وتكامل بين دول القارة الإفريقية.
المبادرة الملكية بالمقاربة التي تم الإعلان عنها في خطاب المسيرة الخضراء حظيت بدعم البرلمان الإفريقي، إذ أعلن بعد الخطاب مباشرة في 9 نوفمبر عن كونه «يدعم هذه الرؤية الطموحة والمندمجة» معتبراً « الاقتراح المغربي يهدف إلى مواجهة هذه التحديات-الأمنية، الاقتصادية- من خلال خلق إطار مؤسساتي متين يوحد بلدان القارة ال23 المطلة على المحيط الأطلسي»، هذا الموقف يؤكد على الاحتضان الإفريقي لهذه الخطوة، ليس فقط سياسياً واقتصادياً، بل مؤسساتياً، مما يعطيها بعداً أكبر من كونها فقط مبادرة تجاه دول الساحل، بل تجاه عموم إفريقيا خاصة وأن البيان الإفريقي اعتبر المبادرة ستحقق الوحدة بين مجموع الدول المطلة على المحيط الأطلسي، التي تصل، حسب البيان، إلى 23 دولة إفريقية، أي حوالي نصف القارة الإفريقية، مما يشير إلى استعداد جل الدول الإفريقية لتبني المبادرة الملكية والانخراط فيها لتحقيق الاندماج الاقتصادي والتنمية والرخاء لشعوب القارة، وما شجع ودفع هذه الدول بمؤسساتها الإفريقية الواسعة إلى دعم المبادرة الملكية نحو دول الساحل لضمان ولوجها إلى المحيط الأطلسي، هو أن المغرب لم يعتمد في تعاطيه مع دول الساحل على مقاربة «أمنية» صرفة ولا اختزل دول الساحل في التهديد الإرهابي، مثلما قامت به عدة مبادرات سابقة خاصة الأوروبية، التي انتهت كلها بالفشل لارتكازها على هذا البعد الأمني والعسكري فقط، وهو عكس ما قام به جلالة الملك إذ أكد في خطاب المسيرة الخضراء على رؤية واضحة ترى في المنطقة عامل جذب اقتصادي وتنموي ولم يختزلها فقط في ما قد تشكله من تهديدات محتملة، ليكون بذلك منسجماً مع خطاب استرجاع المغرب لمقعده بالاتحاد الإفريقي، ومع مقاربته للوضع بإفريقيا عموما، وهي مقاربة تهدف إلى وضعها على سكة التنمية، الاستقرار الحقيقي، والبناء.
المشروع المغربي انطلق نحو تسهيل ولوج دول الساحل نحو المحيط الأطلسي وما بعده، مع ما سيوفره المغرب من إمكانات اقتصادية، وبنية تحتية ومؤهلات رهن إشارة هذه الدول، وهي الدول التي بانخراطها في هذا المشروع ستنطلق من وضع وحالة اللاستقرار إلى وضع أكثر رخاء، وضع مؤسساتي واقتصادي لا يجعلها مُختزلة في « الإرهاب والجريمة المنظمة»، وهي مقدمة لمواجهة مختلف التحديات التي تواجه إفريقيا بالمقاربة التي وضعها الملك محمد السادس، وهي مقاربة التنمية في مواجهة الفقر والإرهاب.
لقد انطلق هذا المشروع من خطاب تخليد ذكرى المسيرة الخضراء، وربط هذا المشروع بهذا الحدث الوطني يعطي لهذا الأخير ليس فقط بعداً وطنيا بل قارياً وإفريقيا، من خلال ربط حدث استكمال تحرير التراب المغربي بتحرير إفريقيا من الفقر والإرهاب والانفصال.