العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان تراسل وزير الصحة والحماية الاجتماعية” حول وضعية القطاع الصحي بالمغرب”
وجهت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان رسالة مفتوحة إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية” حول وضعية القطاع الصحي بالمغرب”
وهذه نص الرسالة:
بمناسبة اليوم العالمي للصحة، الذي يصادف السابع من أبريل من كل سنة، تتشرف العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بتوجيه هذه الرسالة المفتوحة إليكم، من موقع مسؤوليتها الحقوقية، لتسليط الضوء على الواقع الصحي ببلادنا، واستعراض أبرز الإشكالات التي يعاني منها القطاع، والدعوة إلى بلورة سياسات عمومية صحية منصفة، عادلة، وفعالة، تكفل الحق في الصحة لكل المواطنات والمواطنين بدون تمييز، وتنسجم مع التزامات المغرب الدستورية والدولية في هذا المجال الحيوي.
السيد الوزير،
لقد جاء دستور 2011 ليكرّس الحق في الصحة باعتباره حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، من خلال فصله 31، الذي ينص على أن الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة.
غير أن الواقع الميداني يكشف عن وجود فجوة واسعة بين النص الدستوري والممارسة الفعلية، حيث يشهد القطاع الصحي أزمات مزمنة ومتعددة الأبعاد، تؤثر سلباً على جودة الخدمات، وكرامة المرضى، وشروط العمل المهني، وتضعف الثقة بين المواطن والمؤسسات الصحية العمومية.
أولاً: الخصاص البنيوي في الموارد البشرية والمنشآت الصحية
يُعاني المغرب من خصاص كبير في الأطباء، الممرضين، والأطر الصحية، حيث أن عدد الأطباء في المغرب في القطاعين العام والخاص، لا يتجاوز 29 ألفا طبيبا وطبيبة، بمعدل 8 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، في حين أن المعدل الذي تحدده منظمة الصحة العالمية يصل إلى 15.3 طبيبا، حسب تقدير سابق للمندوبية السامية للتخطيط، هذا العجز ينعكس بشكل مباشر في ضعف العرض الصحي، وتردي جودة الخدمات، وطول مواعيد الفحوصات والعمليات الجراحية، وتفاقم ظاهرة الهجرة الطبية نحو الخارج، إذ كشفت الاحصائيات أن المغرب فقد أزيد من 1400 طبيبا خلال سنة واحدة فقط.
من جهة أخرى، لا تزال الفوارق المجالية صارخة في توزيع البنية التحتية الصحية، حيث تتركز المنشآت والمراكز الاستشفائية الكبرى في محور الرباط-الدار البيضاء، مقابل ضعف أو غياب الخدمات في العديد من المناطق القروية والجبلية، وهو ما يشكل ضربًا لمبدأ العدالة المجالية والحق في الولوج المتكافئ إلى العلاج.
ثانياً: ضعف الحكامة وسوء تدبير الموارد
تشهد منظومة الصحة العمومية اختلالات كبيرة في مجال الحكامة، تتجلى في سوء توزيع الموارد، وتداخل الصلاحيات، وضعف آليات المراقبة والتقييم، واستمرار مظاهر الفساد والزبونية والمحسوبية في تدبير التعيينات والصفقات العمومية؛ كما أن تدبير الأدوية والمستلزمات الطبية لا يخلو من شبهات، سواء من حيث جودتها أو أثمانها أو طريقة توزيعها.
وتلاحظ العصبة أن العديد من المستشفيات تعاني من أعطاب في الأجهزة الطبية، وانقطاعات متكررة في خدمات الفحوصات البيولوجية، وغياب بعض التخصصات الحيوية، ناهيك عن استمرار الاكتظاظ الكبير، لا سيما في أقسام المستعجلات، التي تحولت إلى فضاءات للمآسي اليومية بسبب غياب التأطير، والتجهيز، والسرعة في التدخل.
ثالثاً: هشاشة المنظومة التشريعية والتنظيمية
ما تزال القوانين المؤطرة للقطاع الصحي متقادمة ولا تواكب التحولات الاجتماعية والديمغرافية التي يعرفها المغرب، كما أن إصلاح المنظومة الصحية ظل في أغلبه رهين قرارات تقنية وغير تشاركية، دون إشراك حقيقي للمهنيين وممثلي المجتمع المدني والهيئات الحقوقية في بلورة السياسات العمومية.
ورغم إقرار ورش تعميم الحماية الاجتماعية، إلا أن آلياته التطبيقية ما تزال غامضة وغير مكتملة، ويُخشى أن يتحول إلى عبء إضافي على فئات هشة إذا لم يقترن بتحسين حقيقي للبنيات الصحية، وضمان مجانية العلاج للفئات المعوزة، وتجويد التغطية الطبية الأساسية.
رابعاً: غياب عدالة دوائية وتفاوت في الولوج للعلاج
لا يزال ثمن الأدوية في المغرب من بين الأعلى في المنطقة، رغم بعض الإصلاحات المحدودة، وهو ما يحرم العديد من المواطنين من القدرة على التداوي، خاصة في غياب تعميم فعلي للتغطية الصحية.
كما تسجل العصبة غياب الصيدليات في عدة مناطق نائية، وتراجع أدوار الصيدلي كفاعل صحي.
كما أن مرضى السرطان، وأمراض القلب، والفشل الكلوي، والتصلب اللويحي، وغيرهم من أصحاب الأمراض المزمنة، يعانون من ارتفاع كلفة العلاج، وصعوبة الحصول على الأدوية، وطول المساطر للحصول على الدعم، دون وجود سياسة دوائية عادلة وشاملة.
وتُسجل العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بقلق استمرار غياب سياسة دوائية وطنية مندمجة، تضمن ولوجاً عادلاً ومنصفاً للأدوية الأساسية لكل المواطنين، وتؤطر تسعير الأدوية والرقابة على جودتها وطرق تسويقها.
فرغم أن المغرب يتوفر على ترسانة قانونية تنظّم قطاع الدواء، إلا أن واقع السوق يظل متسماً بعدة اختلالات، أبرزها: ارتفاع أسعار الأدوية مقارنة بالقدرة الشرائية للأسر المغربية، ضعف ترويج الأدوية الجنيسة رغم دورها في تخفيض التكاليف، غياب الشفافية في تحديد الأسعار، وتفاوت الأسعار بين القطاعين العام والخاص.
كما نلاحظ عدم توفر بعض الأدوية الضرورية لعلاج الأمراض المزمنة والنادرة في الصيدليات العمومية، مما يضطر المرضى إلى اقتنائها من الخارج أو بمبالغ باهظة في السوق المحلية، ما يهدد الحق في العلاج لآلاف المرضى، خاصة في غياب دعم مباشر أو تغطية شاملة.
ونشير كذلك إلى النقص الحاد في أدوية التخدير والإنعاش وبعض اللقاحات في مستشفيات عمومية، ما يؤدي إلى تأجيل العمليات الجراحية أو تعطيل بعض الخدمات الأساسية. وهو ما يستدعي، في نظرنا، تطوير نظام وطني لتدبير المخزون الدوائي بشكل شفاف وفعال، يُراعي التوزيع الجغرافي العادل، ويرتبط بآلية استباقية للاستجابة للأزمات والاختلالات المفاجئة في السوق.
ومن هذا المنطلق، نطالب بإعادة النظر في السياسة الدوائية الوطنية، بما يضمن حق المواطنين في الولوج إلى الدواء بأسعار مناسبة، وبجودة عالية، وباستقلالية عن الضغوط الاقتصادية للوبيات شركات التوزيع والتصنيع.
خامساً: كرامة المرضى والعاملين في الحقل الصحي
تعبر العصبة عن قلقها إزاء تزايد الشكاوى المرتبطة بسوء المعاملة داخل المؤسسات الصحية، وغياب آليات الاستقبال والتوجيه، وتأخر التدخلات الطبية، بما يمس كرامة المرضى وأسرهم، ويفاقم شعورهم بالإهانة والتهميش.
كما تُسجّل تردي ظروف عمل الأطر الصحية، من ضغط مهني، وقلة التحفيز، وغياب الحماية القانونية، وتعرضهم أحيانًا للاعتداء، دون أن تحظى مطالبهم بالاستجابة اللازمة، مما يؤدي إلى فقدان الكفاءة أو الهجرة أو العزوف عن ممارسة المهنة.
سادساً: الخصاص في الوقاية والصحة النفسية
لا تحظى الصحة الوقائية والعقلية والنفسية بالأولوية ضمن السياسات العمومية، حيث يُسجل ضعف في برامج التوعية، وتراجع التلقيح، وغياب إستراتيجيات لمواجهة الأمراض المزمنة، ومحدودية الموارد المخصصة للصحة النفسية أو العقلية، سواء من حيث البنيات أو الأطر أو التغطية.
سابعاً: استمرار التفاوت الطبقي في الولوج إلى العلاج
باتت الهوة تتسع بين من يستطيع الولوج إلى مصحات خاصة ومختبرات وتحاليل فاخرة، ومن يجد نفسه رهينًا لطوابير المستشفيات العمومية، الأمر الذي يعمق الإحساس بعدم المساواة، ويقوّض مبدأ التضامن الاجتماعي، ويُحول الصحة إلى امتياز طبقي بدل أن تكون حقاً عاماً.
ثامناً: غياب استقلالية واستراتيجية وطنية واضحة
تسجل العصبة غياب رؤية وطنية متكاملة لتأهيل القطاع الصحي، ترتكز على الشفافية والفعالية والاستثمار في الرأسمال البشري، كما أن تواتر التعديلات الحكومية، وتعدد المخططات دون استمرارية أو تقييم، يجعل من الإصلاح الصحي حلماً بعيد المنال.
تاسعاً: اختلالات في أنظمة التغطية الصحية واستمرار الهشاشة
رغم الخطوات المهمة التي قطعها المغرب في تعميم التغطية الصحية، إلا أن هذه النقلة ظلت شكلية في نظر العديد من المواطنين، نظراً لغياب تحسين ملموس في جودة الخدمات الصحية، وبسبب استمرار التعقيدات الإدارية، وغياب المرافقة الاجتماعية، وانعدام الوعي الكافي بآليات الاستفادة.
كما أن عدداً كبيراً من الفئات الهشة لا تزال تجد نفسها خارج منظومة الحماية، بسبب صعوبات التسجيل، أو لعدم توفر الوثائق المطلوبة، أو لتراكم الانخراطات، في الوقت الذي لا تُواكب فيه الدولة هذه الإجراءات بآليات مواكبة فعالة أو إعفاءات واقعية، مما يعمق التهميش الطبي والاجتماعي.
وقد سجلنا أن المستشفيات لا زالت تطالب المرتفقين، خاصةً الفقراء منهم، بأداء مبالغ مالية مسبقة للحصول على الخدمات، وهو ما يمثل تراجعاً خطيراً عن مبدأ مجانية العلاج للفئات غير القادرة، ويناقض أهداف العدالة الاجتماعية التي يُفترض أن ترتكز عليها الحماية الصحية.
فعلى مستوى الاستفادة من التغطية الصحية بالنسبة للمستفيدين من الدعم المباشر، وحسب تقرير لمؤسسة الوسيط، يبدو أن ثبوت الاستفادة من الدعم المذكور يؤدي بشكل آلي إلى عدم إمكانية الاستفادة من التغطية الصحية إلا بعد أداء واجب المساهمة المقرر للاستفادة من التأمين الإجباري عن المرض. مما يثير تساؤلات حول مدى تحقيق الدعم المباشر، بين سقفيه الأعلى والأدنى المحددين في 500 درهم و1000 درهم، للأمن الصحي لهذه الفئة بمجرد حصولها على هذا الدعم.
وفي ظل ذلك، نعتبر أن تعميم التغطية الصحية لن يحقق أهدافه ما لم يُقرن بإصلاح حقيقي للبنية الصحية العمومية، وتحسين العرض الطبي، وضمان الإنصاف في ولوج كل فئات الشعب المغربي إلى العلاج والاستشفاء الكريم.
عاشرا: بداية صحية لمستقبل واعد للأم والطفل
بعد التنويه بالحملة الوطنية حول تتبع الحمل، التي تطلقها وزارتكم، بمناسبة اليوم العالمي للصحة الذي يأتي هذا العام تحت شعار “بداية صحية لمستقبل واعد”، تؤكد العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان أن تعزيز صحة الأمهات والمواليد لا يجب أن يظل مجرد شعار مناسباتي، بل ينبغي أن يشكل التزاما مؤسساتيا متواصلا، يستند إلى مقاربة حقوقية شاملة، تراعي العدالة الصحية والمجالية.
فرغم التقدم النسبي في مؤشرات صحة الأم والطفل، لا تزال العديد من النساء، خاصة في المناطق النائية والمهمشة، يواجهن صعوبات بنيوية في الولوج إلى الخدمات الصحية الأساسية، سواء بسبب ضعف البنيات التحتية، أو الخصاص في الأطر الطبية، أو كلفة التنقل والعلاج.
وتشدد العصبة على أن الحق في الصحة كما تقره المواثيق الدولية والدستور المغربي، يفرض على الدولة اتخاذ تدابير ملموسة تضمن المساواة في الولوج، والاستمرارية في الرعاية، والجودة في الخدمات، مع إيلاء عناية خاصة بالوقاية والتتبع المبكر للحمل.
السيد الوزير،
إننا في العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، وإذ نرفع إليكم هذا التشخيص المختصر، المبني على ملاحظات ميدانية، وشهادات مواطنين وفاعلين مهنيين وحقوقيين ومؤسسات رسمية، فإننا نؤكد أن الحق في الصحة هو حجر أساس في بناء دولة الكرامة والمواطنة، ولا يمكن فصله عن باقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولا عن متطلبات العدالة والإنصاف.
وعليه، فإننا نطالبكم، في هذا اليوم العالمي للصحة، بما يلي:
1. إطلاق حوار وطني شامل حول مستقبل المنظومة الصحية بمشاركة كافة الفرقاء، بمن فيهم النقابات والهيئات المهنية والحقوقية؛
2. اتخاذ إجراءات عاجلة لتقليص الفوارق المجالية، وضمان العدالة في توزيع الموارد الصحية؛
3. تحسين ظروف العمل للأطر الطبية والتمريضية، وتحفيزها، وتوفير الحماية القانونية لها؛
4. تسريع وتيرة إصلاح المنظومة التشريعية المؤطرة للقطاع بما يضمن الشفافية والفعالي؛
5. إعمال مراقبة صارمة على تدبير الأدوية والمستلزمات الطبية، وضمان جودتها وأسعارها؛
6. ضمان مجانية العلاج للفئات الهشة والمعوزة، ضمن تعميم حقيقي وفعّال للحماية الاجتماعية؛
7. توفير العلاجات الضرورية لمرضى الأمراض المزمنة والنفسية والنادرة، ضمن سياسة دوائية وطنية عادل؛
8. ترسيخ مبادئ الحكامة والنجاعة في تدبير القطاع، وربط المسؤولية بالمحاسبة؛
9 .إصلاح شامل وفعلي لنظام التغطية الصحية، يضمن استفادة جميع المواطنات والمواطنين، خاصة الفئات الهشة، من خدمات علاجية ذات جودة، دون عراقيل إدارية أو تكاليف مباشرة تعيق الولوج إلى الحق في الصحة؛
10 . توفير الأدوية الأساسية بأسعار مناسبة وجودة مضمونة، من خلال مراجعة السياسة الدوائية الحالية، وتشجيع استعمال الأدوية الجنيسة، ومراقبة سوق الدواء لمنع الاحتكار والمضاربات؛
11. ضمان العدالة المجالية في التغطية والخدمات الصحية والدوائية، بما يشمل المناطق القروية والبعيدة، وتوفير آليات ناجعة لتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية بشكل منتظم ومنصف؛
12. إحداث آلية وطنية مستقلة لمراقبة وتقييم منظومتي التغطية الصحية والسياسة الدوائية، تُشرك فيها جمعيات المجتمع المدني، وتعمل على ضمان احترام الحقوق الصحية للمواطنين ومساءلة الجهات المسؤولة؛
13. إقرار نظام استهداف دقيق يضمن المتابعة المجانية والمنتظمة لجميع النساء الحوامل، خاصة في الوسط القروي والمناطق ذات الهشاشة الاجتماعية؛
14. تعزيز برامج التكوين المستمر للأطر الصحية في مجالي التوليد ورعاية الأطفال، وتوفير الإمكانات اللازمة لضمان تدخل فعّال وسريع في الحالات المستعجلة
ختاماً،
نعبر عن أملنا في أن يشكل اليوم العالمي للصحة محطة للمساءلة الوطنية، والمراجعة الصريحة للمسار، والانخراط الجاد في إصلاح عميق وحقيقي، يجعل من الحق في الصحة واقعًا ملموسًا في حياة المواطن المغربي.
وتفضلوا، السيد الوزير، بقبول فائق عبارات التقدير والاحترام.
عن المكتب المركزي
رئيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان