swiss replica watches
انخرام الأخلاق وانهيار الأحزاب في تونس – سياسي

انخرام الأخلاق وانهيار الأحزاب في تونس

عزالدّين عناية

أستاذ بجامعة روما – إيطاليا

خرجَت الممارسة السياسية في تونسمن طور عقيم قبل الثورة إلى آخر سقيم بعد الثورة، وإن رُوعيت في العملية الأخيرة مقتضيات الديمقراطيةالشكلية. مع أن الممارسة السياسية الصائبةيُفتَرض أن تحتكم بوجهٍ عام إلى قواعد اللعبة الديمقراطية، وما تقتضيه من أخلاقيات مدنيّة وفضائل حضارية،وهي كما نعرفشأن جديد لم يأْلفه العقل السياسي العربي الحديث، لِما ألَمّ به من تقليد سلطوي تسلّطي، ومن إدمانلممارسة الحكم الغشوم، ومن مصادَرة لإرادة الخَلْق ووصاية على عقولهموأرواحهم،جعلت الناسبمثابة “السّبايا”.

لكنّدَرْبالخروج من ورطة الحكم العضوض إلى وعود الديمقراطية وأخلاقياتها، لم يخلُ من مخاطر الوقوع في مساوئ مغايرة، لا تقلّ سوءا عن مساوئ ما قبل الديمقراطية. ففي زحمة التخمة الحزبية التي اجتاحت الحياة السياسية، نِتاج القحط السياسي على مدى عقود عجاف، يبقى الواقع الجديدمشوبابالمزالق والانحرافات، وهو ما يستوجب التنبيه من باب “من حذّرك كمن بشّرك”. ولا نقصد بالخلل كثرة الأحزاب، ولا تباين الآراء، ولا زحمة الطروحات، وإنما الخلل الفاضح، الذي تتقاسمه جلّ الأحزاب، ومجمل العائلات السياسية، صغيرها وكبيرها،وهو تزعزع الصلة الوثيقةلديها بين السياسة والأخلاق، بين الفعل السياسي والرصيد القِيَمي. حتى بدت العمليةالسياسيةشريدة، لافتقادها ذلكالرأسمال المعنوي،ولا تمتّ إلى الوعي الجمعيبصلة. لذا غالبا ما تردّدَذلك التوصيف النبيهعلى ألسن الناس: “تجي تفهم تدوخ” (تريد أن تفهم فتصاب بالدّوار)،مشفوعابتساؤل: من أين جاء هذا الفصام بين الفعل السياسي والوازع الخُلقي؟

أحيانا يفسِّر المرء ما يجريبـ”لقاو مدينة خالية قامو فيها الآذان”(في الخلاء رفع الآذان) دون فهمٍمتروّ لما حلّ بالبلاد. لكن في ظلّ الاهتزاز المريب لذلك الوازع بين ساستِنا، ينبغي ألاّ يجرّالأمر صوب اليأس والإحباط، بل إلى تروّي ما يجري بتدبّر لتخطّيه. في الواقع ينبع هذا الخُواء الخُلقيالمستشري من أمرين:

الأول متولّد من هشاشة “الثقافة السياسية”لدى كثير من “الساسة الجدد”، فالسواد الأعظممنهم قد خرجوا من ليس إلى الأيس. ولا يملك الناظر،أمام تبدّل الأزمان وتقلّب الأحوال إلاّاستحضار قولهتعالى “يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ”، بعد أن صار الأوائل أواخر والأواخر أوائل.ذلك أن شقّاهاما من ساستنا ضِحال الثقافة هزيلوالمعارف،وبالكاد يقرأون الصحف، فما بالك بقراءة ثلاثية الأبعاد للراهن والماضي والقادم. واكتشاف ضحالة هؤلاءلا تحتاج إلى بحث واستقصاء، يكفي أن يتكلّم المرء فيُعرف، فالمرء مخبوء وراء لسانه. وبالتالي نوهِم أنفسنا حين نعدُّهم صفوة القوم وقادتنا إلى برّ الأمان، وقدباتوا يشكّلون شِلّةً مغلقة، “كاسْتا” كما يقول الإيطالي،متهافتة علىالسياسة، وجلّهم ممّن ينبغي أن يُساس لا أن يسوس.احترفوا السياسة، لا لشيء إلاّ لأنهاتهب وجاهة، وتجلب نعمة، وتخلّف سطوة، وكثير من هؤلاء الساسة قد صُنِععلى عجل، لذا “الله يفكّنا مِالمرا المهبولة ومِالواطي إذا نال دولة” (اللّهم احفظنا من المرأة الهبلاء والنذل المتسلّط). حتى استقرّ في أذهان هؤلاء الأغرار (جمع غرّ)، من فرط اللغو في المنابر الإعلامية أن السياسة مصالح، وأن المصالح مغانموغيرها من أشكال السفسطة، والحال أن المغانم محفوفة بالرذائل، كما حُفّت النار بالشهوات. لذا تراهم لا يتناونون عن اقتراف البُهت والزور والقذف والنميمة، مع أن التونسي تربّى على أن “الكذب سلطان المعاصي”. غير أن تلك الشِلّة تطبّعت بتلك الطباع، كون السياسة كما رسمت معالمها”الماكيافيلّية”هي انتهازية ودجل وخديعة ومخاتلة وغطرسة ونفاقوسوقية،وغيرها من مفردات “قاموس العِيبْ” التونسي.لذا تجدُ كثيرا من ثعابين السياسة عندنا، وبكل صفاقة، يرمون الكلام على عواهنه، ويستهترونبقِيَم الشعب وعوائده،وهم “كيف السردوك رجليه في الخراء ويذّن” (كالديك يؤذّن وهو واقف على النّجاسة).ومن الطبيعي أن يستغرب التونسي هذا الرهط الذي حلّ به،من أناسٍ “قِرْبِلَّه لا دين لا مِلّه”(سقط متاع، لا دين لهم ولا ملّة) وممّن “لا يصلح.. لا لِلدّنيا لا للدّين”، فكثيرمن هؤلاء،وفق فراسته، قد وُجدوا في المكان الخطألأنّ “الناس تعرف الناس والخيل تعرف رُكّابها”.

وأما العامل الآخر وراء هذا الاهتزاز الخُلقي فهو بنيوي،إذ ينبغي ألاّ يغيب عن أذهانناأن الأمر في جانب منه مورَّث من حقبة مضطربة. ونقصد بها الحقبة السياسية السابقة التي جرفت البلاد إلى قعر الردى. كيف لا؟ وقد باتت العملية السياسية في عهد الحصار الكبير الذي عاشته الشخصية التونسية، مسكونةً بالرعب والخوف والتوجس، حتى شبع الضمير الشعبي تنكيلا،ولنقل باختصار أكلَ “طْريحَةْ نبّاشة القبور” (ضربٌ مبرحٌ لنابش القبور) وليس مجرّد “طْريحةْ كلْب خْرا في جامع” (ضربٌ لكلبٍ خرئ في الجامع)، وهوما أصاب الضمير الجمعي في مقتل، حتى أرداه عليلا “مجروح في مسكن الروح”. أذكر كلمة بارقة للكاتب حسن بن عثمان،ذات صائفةعشية الثورة، تجاذبنا أثناءها أطراف الحديث عن البلاد:”إن نظام بن علي قد جرّ الجميع إلى المستنقع، تورَّط وورَّط معه معشر المثقّفين والسياسيين، حتى إذا لُعنَ لُعنوا وإذا سُبَّسُبّوا”، كان كلام بن عثمان بمثابة الرؤيا عمّا وصلت إليه الصفوة من تواطؤ وسوء خُلق،وهو ما جعل البلاد على شفا جرف هار. كان هناك يأس من الطبقة السياسية حينها، وكأنّ حكم القدر قد صدر فيهم:”لا يتنبّى فيهم نبيّ لا يتولّى منهم وليّ” (لا نبوّة ولا ولاية تظهر منهم).

لكن لنعد إلى راهننا الحارق، لا مراء أن سلوكات مشينة سلكها ساسة تونس خلال السنوات التي أعقبتالثورة، جعلت كثيرين يمقتون الساسة والسياسة، وينفرون من تدنّي خُلق جماعة متصدّرة للمشهد، مردّدين بأسى:”الله يرحمك يا راجل أمي لوّل” (رحم الله زوج أمّي الأوّل)، في إشارة ظاهرة وباطنة إلىمن سامهم سوء العذاب. والحال أن المجتمعات الديمقراطية، الوليدة والرشيدة، بحاجة إلى لغة سياسية راقية وأخلاقيات قادرة، على إبراز المعنى والقيمة الحقيقيين لحياة مدنية كريمة، وفق ما لخّصه بإيجاز عالم السياسة الإيطالي ماورِيتسيو فيرولي. وهو ماسبق أن نبّهإليه ببراعته المميزة جان جاكروسوفي ذلك الربط بين الوطن والحرية والفضيلة في قوله: “لا يمكن أن يحيا الوطن دون الحرية، ولا الحرية دون الفضيلة، ولا الفضيلة دون المواطنين”.

والملاحظ في فراق السياسة والأخلاقعندنا، أن الأمر لا ينحصر بحزب دون غيره، أو شخصية وجيهة دون أخرى، فالجميع باتوا سواسية في تصوّر الناس، مهما زُيّن للواحد منهم عمله، فجميعهم وبإيجاز بمثابة “سوكارجي يعظّم على قمّارجي” (مدمن خمر يلوم مدمنَ قمار). هناك “فضيلة مدنية” شريدةفي أوساط طبقة مشتغلة بالسياسة، ولذا أضحى التونسي لا يستغرب ما آلت إليه الأمور من مآزق، اقتصادية وتعليمية وأمنية ودينية، فالمقدّمات تخبر عن النتائج:”إذا كان النّعش مكسّر والحمّال أعْور يكون الميّتمن أهل جهنّم”.

ذلك أن السياسي الذي ولّيناه أمرنا ثم جاس على رقابنا، ووكلناه بخدمتنا ثم حسِبَنا خدماوغنما،تبيّن أن فيه من اللؤمالشيء الوفير، بما يشبه قصة ذلك المخاتلالوارد الحديث بشأنه في “ألف ليلة وليلة”: رققنا لحاله وراعينا شيبته “تقدّمنا إليه وحملناه على أكتافنا وجئنا إلى المكان الذي أشار لنا إليه وقلنا له:انزل على مهلك فلم ينزل عن أكتافنا، وقد لفّ رجليه على رقابنا فنظرنا إلى رجليه فرأيناهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة، ففزعنا منه وأردنا أن نرميه من فوق أكتافنا فقرط على رقابنا برجليه وخنقنا بهما، حتى اسودّت الدنيا في وجوهنا وغبنا عن وجودنا ووقعنا على الأرض مغشياً علينا مثل الموتى…” (بتصرف ضئيل). حفظ الله تونس ورعاها.

  • أستاذ تونسي بجامعة روما-إيطاليا

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*