ماذا تبقى من مصداقية للأحزاب السياسية؟!
ماذا تبقى من مصداقية للأحزاب السياسية؟!
لم يمض كثير من الوقت على تلك الرسالة السامية التي بعث بها الملك محمد السادس في تزامن مع ما تشهده بلادنا من حملة اعتقالات واسعة ومتابعات قضائية، همت عددا كبيرا من البرلمانيين ورؤساء الجماعات ومجالس العمالات، وقرارات المحكمة الدستورية القاضية بتجريد برلمانيين من الصفة البرلمانية لتورطهم في ملفات فساد وتهم ثقيلة، إلى المشاركين في الندوة الوطنية التي انعقدت في 17 يناير 2024 بمناسبة إحياء الذكرى”60″ لتأسيس أول برلمان منتخب في المملكة.
وهي الرسالة التي دعا فيها جلالته إلى تخليق الحياة البرلمانية عبر إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها تكون ذات طابع قانوني ملزم. مؤكدا على ضرورة تحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، بالإضافة إلى الالتزام بالجدية في الارتقاء بجودة النخب البرلمانية والمنتخبة، وتعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية.
حتى فوجئ الرأي العام الوطني بتوجيه المجلس الأعلى للحسابات ضربة قوية للأحزاب السياسية، وذلك في إطار المهام والاختصاصات المنوطة به بمقتضى الفصل 47 من الدستور والقانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب في (المادة 44) وقانون المحاكم المالية (المادة 3) عبر التقرير السنوي الصادر في 28 فبراير 2024 حول تدقيق حساباتها وفحص نفقاتها الخاصة بالدعم العمومي الممنوح لها برسم سنة 2022، مساهمة من الدولة في تغطية مصاريف تدبيرها ومصاريف تنظيم مؤتمراتها الوطنية العادية، حيث كشف عن اختلالات جمة وخاصة فيما يتعلق بعدم إرجاع مبالغ مالية غير مبررة من الدعم الإضافي المحصل عليه ما بين شهري شتنبر ونونبر 2022، مما يستوجب الإسراع بتوضيح الأمور إذا كانت تريد تبرئة ذمتها والحفاظ على مصداقيتها…
فالتقرير الفاضح سجل زهاء 200 ملاحظة حول التدبير السيء للأحزاب السياسية المغربية لمهامها، وأوضح أن البعض منها لم يقدم ما يكفي من مستندات بخصوص إرجاع مبالغ الدعم إلى الخزينة العامة، كما عجز عن تبرير أجور وتعويضات المستخدمين ونفقات الوقود بوسائل الإثبات القانونية، المنصوص عليها في قائمة الوثائق والمستندات المثبتة، المحددة في المخطط المحاسبي الموحد للأحزاب، وعدم تسديد واجبات كراء المقرات الحزبية بعقود وإيصالات رسمية.
وهو ما أثار ردود فعل غاضبة من قبل مواطنين مغاربة كثر وعدد آخر من المراقبين ومتتبعي الشأن العام ببلادنا، الذين يعتبرون أن ما طال تدبير نفقات الكثير من الأحزاب السياسية المغربية من عيوب، ليس له من تفسير آخر سوى أنها تعاني من سوء التسيير والتدبير، مما يطرح عدة تساؤلات حول نزاهة وكفاءة الأطر المكلفة بإدارة الموارد المالية وترشيدها.
وتعد هذه النقائص المسجلة مؤشرا على التحديات التي تواجه مؤسسات الحكامة، الشيء الذي يخلق جدلا واسعا تجاه الدعم العمومي للأحزاب ووجوب ربطه بالشفافية والرقابة الصارمة، حتى يمكن ضمان الاستخدام الصحيح للمال العام طبقا للضوابط القانونية.
ففي هذا السياق ارتفعت أصوات التنديد بهذه الفضيحة المدوية ليس فقط في أوساط المواطنين وفعاليات المجتمع المدني، بل حتى من داخل بعض الأحزاب السياسية ذات الماضي العريق، معتبرة أن تقرير “مجلس العدوي” إلى جانب تقارير أخرى سابقة، تكشف عن مدى الحاجة الملحة إلى إصلاحات سياسية عميقة، تخص بالأساس القانون التنظيمي للأحزاب قصد تدارك عيوبه، عبر وضع قواعد قانونية من شأنها الإسهام بفعالية في تحقيق الأهداف التي على أساسها صيغ القانون، لكنها تبدو شبه منعدمة في الواقع بسبب غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة، والتفاف مجموعة من الأحزاب على بعض المقتضيات القانونية.
ولم يفت شرفاء الوطن دعوة أمناء الأحزاب إلى ضرورة التحلي بالجرأة وإبداء الرأي الصريح والواضح حول ما جاء به التقرير من مؤاخذات.
كما يرى بعضهم أن ما بات يشهده الحقل السياسي من فضائح متوالية، يعد إفلاسا سياسيا وأخلاقيا لنخب حزبية تعيش على الريع والفساد، إلى درجة أن هناك من حولوا أحزابهم إلى رسوم عقارية وأصول تجارية.
وهو ما اضطر معه رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام محمد الغلوسي إلى تقديم شكاية في الموضوع للنيابة العامة، يلتمس منها التعجيل بإصدار الأمر للفرقة الوطنية للشرطة القضائية، قصد إجراء بحث دقيق حول الاختلالات المرصودة إن على مستوى عدم احترام الشروط الأكاديمية في إنجاز الدراسات والأبحاث، أو على مستوى استفادة بعض “المحظوظين” من المال العام دون موجب حق، وذلك بهدف متابعة المتورطين وترتيب الجزاءات المناسبة في حقهم.
إننا إذ نستنكر توالي الفضائح السياسية والأخلاقية داخل المشهد السياسي ببلادنا، فإننا نرفض حربائية بعض الانتهازيين، الذين طالما يتحدثون بلا حرج عن تخليق الحياة العامة وتفعيل مقتضيات الدستور من حيث الحكامة الجيدة والنزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، ويبدون تأسفهم أمام الكاميرات على تزايد معدل عزوف الشباب عن الانخراط في العمل السياسي والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية.
فكيف يمكن الإقبال على الأحزاب السياسية بعد أن فقدت مصداقيتها، كما يشهد بذلك هذا التقرير الأسود ضدها، وفي ظل دعوة عاهل البلاد المؤسسة التشريعية بمجلسيها إلى إقرار مدونة للأخلاقيات، وتواصل تدني مستوى الخطاب السياسي والمتابعات القضائية في صفوف المنتخبين في ملفات فساد بتهم ثقيلة، من قبيل تبديد المال العام، خيانة الأمانة، الاتجار في البشر والمخدرات وغيره كثير؟
اسماعيل الحلوتي