كتبها: احمد الدافري
هو ليس مجرد موضوع بسيط خاص بالسردين.
تهريب النقاش من جوهر موضوع حيوي إلى شكله أو إلى حيثياته أو إلى هوية من أثاره ومن يكون، هو أمر قد لا يفيد في حل المشكل الذي يطرحه الموضوع.
بعض قضايا المجتمع لا يتم الفصل فيها بالنظر إليها وكأن الأمر يتعلق بملف أمام محكمة يحتاج إلى اتباع مساطر قبل إصدار الحكم فيه.
هناك قضايا اجتماعية ينبغي التعامل معها من خلال الأهمية التي تمثلها بالنسبة إلى المجتمع.
الشاب المراكشي الذي صور فيديو وهو يبيع السردين بخمسة دراهم، لا يهم من هو، ومن يكون، ولا لماذا فعل ذلك.
الأهم هو مناقشة الموضوع الذي طرحه من حيث الجوهر.
قد يكون الشاب فعل ما فعل لأن لديه قناة ويريد أن يشتهر بها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأن يكسب المتابعين، وأن يحقق دخلا ماليا من فيديوهاته.
فما المانع من ذلك؟
هل في ذلك أذى وضرر؟
هل يشكل ذلك خطرا على المجتمع؟
هل قام بفعل يعاقب عليه القانون؟
هل أشعل مثلا النار في جسده ورمى بنفسه في البحر كي يدخل في تحدّ مميت؟
هل صور نفسه في وضع مخل بالحياء وبدأ يطلب من الناس أن يكبّسوا ويكبّسوا وأن يبعثوا له بالورود والأسود؟
ما فعله الشاب هو أمر عادي أصبح يقتضيه العصر الرقمي، ويتعلق بعملية تسويق لسلعة معينة عن طريق الإنترنت.
والتسويق عن طريق الإنترنت أضحى واقعا مفروضا على كل المبحرين داخل المواقع والصفحات والمنصات، في الداخل والخارج، وفي إطار منظومة إعلانات وإشهارات لسلع وبضائع وخدمات، تجوب مختلف مناطق العالم، وهي منظومة تفرض علينا أن نستقبل إشعارات عن إنتاجاتها دون أن نطلب منها ذلك.
نعم.
إن الشاب قام بعملية تسويق لسلعته، واختار أسلوبا لإنجاح العملية التي يقوم بها، ولكي يشتهر.
عندما يبحث التاجر عن الشهرة بطريقة مسموح بها فهو لا يرتكب مخالفة.
في الأسواق منذ قديم العصور، كان كل التجار يدخلون في منافسة بينهم عن طريق الصراخ.
كان الكل يصرخ مشيدا بسلعته في ساحة السوق، ومعددا مزايا بضاعته، ومؤكدا على أن ثمنها في المتناول، وهو أمر مازال معمولا به حتى الآن في الأسواق الأسبوعية وفي أسواق الأحياء.
لماذا يمارس التجار فعل الصراخ؟
يفعلون ذلك كي يشتهروا وكي يصبحوا معروفين.
وقد نقل منهم تجار السلع، اليوم في العصر الرقمي، تقنية الصراخ، وأدخلوها إلى عالم الإنترنت، وأصبحوا يظهرون في فيديوهات في الشارع أمام بوابات متاجرهم للتعريف بها، قبل أن يتوجهوا داخل متاجرهم ويشرعوا في إظهار بضائعهم متحدثين عن أن ثمنها منخفض، فتجد هذا يخبرك بأن لديه سراويل للرجال رائعة بثمانين درهما، وتجد الآخر يقول لك بأن لديه علب ماكياج للنساء مدهشة بعشرين درهما، بل تجد حتى من يقول لك بأنه يمكن أن يداويك من أمراض مزمنة ومن العجز الجنسي بواسطة مواد مصنوعة من خليط مُركّب من أعشاب وعسل الدغموس.
الشاب المراكشي لم يرتكب فعلا يعاقب عليه القانون.
كل ما فعله، هو أنه أثار موضوعا جوهريا ينبغي أن تتم مناقشته بعمق. وهو موضوع مرتبط ببنية اقتصادية مختلة ينبغي النظر إليها بجدية.
الموضوع ينبغي النظر إليه من زاوية انتشار وسائل ارتزاق غريبة، تتمثل في وجود أشخاص يعملون ويتعبون ويشقون مقابل ثمن زهيد، بالموازاة مع وجود أشخاص لهم نفوذ يستغلون شقاء العاملين الذي يكدون ويشقون، ويجنون من شقائهم مبالغ مالية كبيرة وهم خاملون.
الموضوع هو وجود صياد يصيد السمك بالأطنان، ويغامر داخل البحر بحياته، مقابل أجر هزيل، والذي يجني الأموال الكثيرة هو صاحب رخصة الصيد في أعالي البحار، وهو المُضارب والسمسار، الذين يديرون أعمالهم بالهاتف من الدار.
الموضوع هو وجود سائق سيارة أجرة يصبح شريرا ومكروها وسيء الخلق والطباع، لأنه يشتغل لدى صاحب مأذونية السيارة، الذي يفرض عليه أن يأتي له بالروسيتا بعد أن يملأ خزان السيارة بالوقود، بغض النظر عن هل حقق دخلا أقل أو أكثر من الروسيتا وثمن الوقود.
الشاب المراكشي، مهما قيل عنه، ومهما كانت طبيعة التصريحات التي أدلى بها البعض حول ما قام به، ومنها تصريحات صدرت عن منافسين له في تجارته، بدل توجيه اتهامات له خارجة عن إطار جوهر الموضوع، ينبغي النظر إليه باعتباره شخصا بحث عن وسيلة لإبراز الوجود في مجتمع أضحى فيه إبراز الوجود ليس سهلا، نظرا لما يتطلبه ذلك من علاقات مع أصحاب القوة والنفوذ.
أن تتحدث في الجوهر الذي أثاره هذا الشاب المراكشي الذي لا يهم معرفة مستواه الدراسي ولا معرفة سلوكه مع أصدقائه وكيف هي علاقاته مع أفراد أسرته أو مع الجيران، ولا معرفة هل سجله العدلي نظيف أو أنه من ذوي السوابق القضائية، ليس معناه أنك شعبوي أو أنك تساند الشعبوية. بل لأن الحديث عن هذا الموضوع وتناوله بعمق وجدية هو حديث عن قضايا ذات ارتباط بالأمن الاجتماعي.
والمجتمع الذي يكثر فيه المضاربون والسماسرة وأصحاب المأذونيات والمستفيدون من الريع، الذين يراكمون الأموال على حساب الكادحين، ويخلقون موجات الغلاء الفاحش في الأسواق، هو مجتمع قد يصبح مهددا في أمنه واستقراره.
وهذا ما كان.