بقلم: ذ. يوسرى رمضان*
مدونة الأسرة بين آفاق التغيير وعوائق التقبُّل المجتمعي
توطئة
تمثل الأسرة النواة الأساسية لتماسك المجتمع المغربي، فهي ليست مجرد تنظيم اجتماعي فقط، بل لبنة رئيسة لبناء القيم والتواصل الإنساني.
هكذا تبوأت الأسرة منذ أقدم العصور مكانة محورية في التشريع، نظرًا لأثرها العميق في الحفاظ على استقرار الفرد والمجتمع، وباعتبارها خلية تؤطر حياة الإنسان من خلال تموقعه في المجتمع وعلاقاته الزوجية والأسرية.
لذلك فالإصلاحات التي تطرأ على القوانين المؤطرة للأسرة تمثل انعكاسًا لتحولات مجتمعية، حيث تختزل عادةً التفاعلَ الطبيعي بين التقاليد المتجذرة وضرورات التحديث.
في الحالة المغربية، منذ عرفت بلادُنا الإسلام، كانت دوماً أحكامُ الشريعة مرجعاً أساساً لتنظيم شؤون الأسرة، مدعومةً بالمذهب المالكي والاجتهاد الفقهي.
وعلى مر العصور، مرّ قانون الأسرة بتحولات تتماشى مع الأبعاد الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، التي شهدها المجتمع المغربي.
ومن أبرز تجليات ذلك تطورُ مدونة الأسرة إلى صيغتها الحالية، والتي جاءت كثمرة لسياق تاريخي ومجتمعي مُرَكَّب، مستندةً إلى المبادئ الإسلامية السمحة، مع انفتاحٍ خلاق على التشريع الإنساني الوضعي بمختلف مصادره ومرجعياته.
اليوم، وفي هذا السياق، تأتي الإصلاحاتُ المعلنة الأخيرة لمدونة الأسرة في ظل تطورات دولية ووطنية عميقة وتحولات مجتمعية متسارعة، حيث يزداد الجدل بشأن أفضل الأساليب التي تكفل تحقيق التوازن المطلوب في إطار مبادئ العدل والمساواة والحفاظ المنفتح على هوية المجتمع وأصالته.
وبينما تُعتبر التوجهات العامة للتعديلات المعلنة مؤخراً خطوةً طموحة نحو تعزيز حقوق المرأة في ظل تماسُك الأسرة، فإن مضامين هذا الإصلاح تواجهُ في العُمق تحدياتٍ ثقافية واجتماعية من شأنها أن تَحُولَ دون تطبيقها بشكل فعّال.
مع العلم أنه بقدر ما تُظهر ملامحُ المدونة المنتظرة تطورًا ملحوظًا في حقوق المرأة والطفل، فهي تسعى إلى صَوْنِ مقاصد الشريعة في تناغُمٍ واتِّساق مع متطلبات العصر الحديث ومتغيرات المجتمع.
تشخيص واقع المدونة والحاجة إلى التعديل
تُعد مراجعة مدونة الأسرة من بين أهم الإصلاحات القانونية التي تشهدها الساحة المغربية راهناً، بالنظر إلى الأثر العميق لهذا النص التشريعي على بنية المجتمع والعلاقات الأسرية. وجديرٌ بالتذكير أنَّ اعتماد الصيغة الحالية للمدونة في سنة 2004 شكل آنذاك خطوة متقدمة نحو تحديث القوانين المنظمة للأسرة، إلا أن الممارسة العملية أظهرت بمرور الوقت وجود اختلالات جوهرية، سواء على مستوى التطبيق أو في بعض المقتضيات ذاتها، مما جعل الحاجة إلى مراجعتها أمرًا حتمياًّ وضروريًا.
إلى جانب ذلك، فرضت التحولاتُ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفها المغرب خلال العقدين الماضيين واقعًا جديدًا، حيث ارتفعت مثلًا نسبة النساء العاملات، وتزايدت حالات عقود الزواج المختلط بين طرفٍ مغربي وطرفٍ ذي جنسية أجنبية. كما أضحى تطويرُ آلياتِ معالجة قضايا مثل الحضانة والنفقة والمساواة في الحقوق أكثر إلحاحًا من أيِّ وقت مضى.
وفي هذا السياق، جاء التوجيه الملكي القاضي بمراجعة المدونة ليؤكد على ضرورة إجراء هذا الإصلاح المجتمعي في إطار الدستور وثوابت الأمة المغربية والخصوصيات الوطنية، وكذلك في ظل التوازن المتين بين الشريعة الإسلامية ومتطلبات الانفتاح على المرجعيات والقيم الكونية ومستلزمات التطورات المجتمعية.
بناءً على ذلك، وبعد مسارٍ تشاوري مؤسسي واسع يليقُ فعلاً بإصلاحٍ مجتمعي من هذا الحجم، تم اقتراح 139 تعديلًا على مدونة الأسرة، منها 21 تعديلًا فقط تم الكشفُ عن مضامينها للرأي العام، فيما لا يزال أكثر من 100 مقترحٍ غير معروفة التفاصيل، وهو ما يطرح إشكالات تتعلق بالتواصل الحكومي حول المضمون الدقيق لهذا الإصلاح العميق، لا سيما في ظل غياب الإعلان عن باقي التعديلات الأخرى.
التعديلات المقترحة: بين القبول والرفض
في إطار مراجعة المدونة، أحال جلالة الملك، طبقاً لاختصاصاته الدستورية، 17 مسألة ذات طابع شرعي على المجلس العلمي الأعلى من أجل إبداء الرأي بشأنها، وهي خطوة تؤكد مرة أخرى على الدور المحوري الذي تضطلع به مؤسسة إمارة المؤمنين في تحقيق وضمان التوازن والتناغم بين مرجعية الشريعة ومقتضى القانون.
وقد جاء رأي المجلس مطابقًا أو موافقًا لأغلب هذه القضايا، مع استثناء ثلاث مسائل تم اعتبارها غير قابلة للاجتهاد، وهي:
إثبات النسب باستخدام الخبرة الجينية: فرغم أهمية هذا المقترح في ضمان حقوق الأطفال المزدادين خارج إطار الزواج، إلا أن المجلس العلمي الأعلى رأى أنه يتعارض مع أحكام الشريعة التي تعتمد “النسب الشرعي” فقط.
إلغاء قاعدة التعصيب في الإرث: وهو تعديل كان من شأنه أن يؤدي إلى توزيعٍ أكثر إنصافًا للتركة، إلا أن المجلس اعتبر أن التعصيب حُكم شرعيٌّ لا يجوز المساس به.
إقرار التوارث بين المسلم وغير المسلم: وهو مقترح كان سيعالج وضعية بعض الأسر مختلطة الجنسية، إلا أن المجلس العلمي أكد أن القاعدة الشرعية تقضي بعدم التوارث بين أصحاب الديانات المختلفة.
وفي المقابل، تمت الموافقة على عدد من التعديلات المهمة، أبرزها:
إمكانية عقد الزواج للمغاربة المقيمين بالخارج دون الحاجة إلى شاهديْن مسلميْن، وذلك لتسهيل إجراءات الزواج أمام المغاربة في بلدان المهجر، خاصة في الدول التي لا تشترط حضور الشهود عند عقد الزواج.
توسيع صلاحيات الأم الحاضنة لتشمل النيابة القانونية عن أبنائها، وهو تعديل ضروري يراعي واقع العديد من الأسر التي تتحمل فيها الأم المسؤولية الكاملة عن الأبناء بعد الطلاق.
الاعتراف بعمل الزوجة المنزلي كمساهمة في تنمية الأموال المكتسبة خلال قيام الزواج، مما يشكل تقدمًا في الاعتراف بالقيمة الاقتصادية للعمل غير المدفوع عنه الذي تقوم به النساء داخل الأسرة.
وُجُوب النفقة على الزوجة بمجرد العقد عليها، وهو تعديل يعزز حقوق المرأة في العلاقة الزوجية ويضمن لها السَّنَد المالي منذ إبرام العقد.
إيقاف بيت الزوجية عن الدخول في التركة، لحماية الزوجة والأبناء من التشرد بعد وفاة الزوج.
اعتبار ديون الزوجين الناشئة عن وحدة الذمة ديونًا مقدمة على غيرها، وهو مقترح يعزز مبدأ المسؤولية المالية المشتركة بين الزوجين.
الإبقاء على حضانة المطلقة لأبنائها حتى بعد زواجها، وهو تعديل يهدف إلى الحفاظ على استقرار الأطفال وعدم إجبار الأمهات المطلقات على الاختيار بين الزواج أو الاحتفاظ بالحضانة
إصلاح غير مكتمل وعوائق التغيير
رغم أهمية هذه التعديلات وغيرها، إلا أن هذا الإصلاح المتقدم لا يبدو أنه يحقق كل ما يتطلع إليه المغرب في سبيل بناء منظومة قانونية أكثر عدالة وإنصافًا. حيث لا تزال بعض القضايا الأساسية، مثل إلغاء التعدد بشكل نهائي، وتجريم تزويج القاصرات، وإقرار المساواة في الإرث، مواضيع خلافية عميقة تُوَاجِهُ مقاومةً شديدة، رغم أن الواقع الاجتماعي بات يفرض البحث العميق والدقيق في مراجعة هذه القضايا في إطار الاجتهاد المتنور، بما يجلب المصالح ويدرأُ المفاسد وفقاً للمقاربة المقاصدية العصرية للدين الإسلامي الحنيف.
فالواقع يُنبِئُنا أنه لا تزال العديد من النساء يعانين من الإقصاء القانوني، سواء في مجال الإرث، حيث تستمر قاعدة التعصيب في حرمانهن من حقوقهن، أو في تعديد الزواج، حيث لا يزال التعدد مسموحًا بشروط قابلة للتحايل. أما قضية تزويج القاصرات، فبالرغم من الجهود المبذولة للحد منها، إلا أن الاستثناءات القانونية لا تزال تُستخدم بشكل واسع لتجاوز السن القانوني للزواج، مما يفرغ الإصلاحات من مضمونها الحقيقي.
عبر العصور، برهنت الشريعةُ الإسلامية على قدرتها الهائلة على التأقلم بفضل الاجتهاد المنفتح على العصر. ولذلك فإن التخوفات التي يتم الترويج لها حول “تفكيك الأسرة” و”المساس بالثوابت الدينية” ليست، في واقع الأمر، سوى عوائق اجتماعية -ثقافية غايتها الباطنة، عن وعيٍ أو عن غير وعي، الحفاظُ على واقع غير عادل، يتجاهل حقيقة أن القوانين يجب أن تتطور لمواكبة المجتمعات، وليس أن تبقى رهينة قراءات جامدة لا تأخذ في الاعتبار التحولات الكبرى التي يشهدها المغرب.
من أجل قانون أكثر عدالة وإنصافًا
لقد أكد جلالة الملك، في أكثر من مناسبة، على أن مراجعة المدونة يجب أن تستحضر مبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من الدين الإسلامي الحنيف، ومن القيم الكونية المستمدة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.
كما أكد جلالة الملك على ضرورة أن يستحضر هذا الإصلاح إرادة الانفتاح على التطور، وضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، والنظر إلى مضامين المراجعة في مجملها، وأنها لا تنتصر لفئة دون أخرى، بل تهم الأسرة المغربية التي تشكل الخلية الأساسية للمجتمع.
ولذلك، فهذا الإصلاح يجري حتى اليوم في إطار الثوابت والانفتاح بغاية تحقيق التوازن الخلاق بين مقتضيات الشريعة والمصلحة الفضلى للأسرة المغربية بجميع مكوناتها، بما يضمن تحقيق العدالة والإنصاف والتماسك. ومن هذا المنطلق، فإن الإصلاحات الحالية يجب أن تكون مجرد خطوة أولى نحو تعديلات أكثر شمولية، قادرة على إنهاء كل أشكال التمييز وضمان حقوق جميع أفراد الأسرة على قدم المساواة.
إن المغرب مُطالَبٌ اليوم بالانتقال من إصلاحات جزئية إلى مقاربة شاملة، تجعل من المساواة قاعدة أساسية لتنظيم العلاقات داخل الأسرة، بدل أن تبقى الاستثناءات القانونية والاجتهادات المحدودة والمنغلقة هي القاعدة. فالأسرة المغربية لم تعد قائمة على الأدوار التقليدية الجامدة، بل أصبحت فضاءً للتكامل الحقيقي بين الرجل والمرأة، وهو ما يتطلب نصوصًا قانونية تعكس هذا الواقع الجديد، لا أن تكرس أنماطًا أصبحت متجاوزة.
ومُحَصِّلةُ القول: إنَ الإصلاح الحقيقي ليس مجرد تعديلات في نصٍّ واحد، بل هو تغيير في الفلسفة القانونية التي تحكم مدونة الأسرة، وهو تغييرٌ في الثقافة والعقليات، وهو تغييرٌ يجبُ أن يطال كافة التشريعات والسياسات العمومية المرتبطة بحقوق النساء، نحو نموذج مجتمعي أكثر عدالة وإنصافًا، يكون فيه القانونُ وحُسنُ تطبيقه حامييْن للحقوق، لا عائقًا أمام تحقيقها.
بقلم” ذ. يوسرى رمضان، في 06 مارس 2025
يوسرى رمضان:
باحثة بسلك الدكتوراه في القانون الخاص؛
فاعلة سياسية، ومستشارة جماعية، وعضوة المجلس الإقليمي بتازة.