فنجان بدون سكر:
الدقيق الملوث… وسحق الحقيقة بالورق
بقلم : عبدالهادي بريويك
حين يصبح الخبز ـ رمز الكفاف اليومي ـ مشوبا بالغش، فالأمر لم يعد مجرد فضيحة تمس قطاعا إنتاجيا، بل إعلانا رسميا عن تآكل الضمير الجمعي وسقوط آخر خطوط الدفاع عن الكرامة الغذائية.
قبل أيام، فجّر نائب برلماني قنبلة من العيار الأخلاقي، حين صرح بأن الدقيق المدعم الذي يكلف خزينة الدولة ملايين الدراهم “يُغشّ ويُسحق بالورق”.
تصريح كهذا لا يُصدم من حيث المعلومة فقط، بل من حيث المعنى؛ إذ يجعلنا ندرك أن الخطر الحقيقي لا يكمن في فتات الورق المختلط بالعجين، بل في الورق الآخر — الورق الذي تُكتب عليه تقارير المراقبة، وتُوقّع عليه الشعارات البراقة حول “الأمن الغذائي” و”المراقبة الصارمة”.
أي عبث هذا؟
أي وطن هذا الذي يُسحق خبزه بورقٍ مهترئ، بينما يُغلف الفسادُ نفسَه بورقٍ مذهبٍ يحمل توقيعات المسؤولين وشعارات الوطنية؟
الغش في الدقيق ليس حادثًا معزولًا، بل حلقة جديدة في مسلسلٍ طويل من “اللا محاسبة”.
من الغش في المواد الأساسية، إلى التلاعب في الأسعار، إلى صفقاتٍ تُدار خلف الستار باسم “الدعم الاجتماعي”.
كل هذا يحدث تحت مظلة مؤسسات ترفع شعارات النزاهة، وتُصدر بلاغاتٍ تتحدث عن “التتبع الصارم” و”الحرص على الجودة”، وكأن المواطن لا يذوق الفرق بين الخبز والخيبة.
إن أخطر ما في هذه الحكاية أن الناس، يوما بعد يوم، يفقدون الثقة في كل شيء.
في الخبز، في القانون، في الدولة، بل حتى في معنى الانتماء ذاته.
وكأننا نسير نحو زمن تصبح فيه الشعارات بديلا عن الفعل، ويصبح الورق غذاء للأجساد كما كان غذاء للأكاذيب.
ذات يوم، “سنتغوط فاكسات قادمة من جهات لا وجود لها”؛ لأننا ببساطة نستهلك كل ما هو زائف: زيف الغذاء، زيف الخطاب، وزيف الضمير.
وماذا بعد الدقيق أيضًا؟
بعد الدقيق يأتي الماء المغشوش، والهواء الملوث، والوعي المخدّر.
وحينها لن يبقى ما يُسحق بالورق، لأن الورق نفسه سيُستهلك في تبرير الخراب.
إن ما نحتاجه اليوم ليس لجنة تحقيق جديدة، ولا بلاغًا مطمئنًا.
ما نحتاجه هو ثورة في الضمير قبل القوانين، وإرادة سياسية تجعل من رغيف الخبز أقدس من المناصب، ومن كرامة المواطن أغلى من أرباح المحتكرين.
حتى لا يأتي يومٌ نأكل فيه الأكاذيب ونُشبع بطوننا بالخذلان.
