swiss replica watches
حداد يكتب: ”أية جدلية للثقافي والسياسي في مغرب ما بعد الاستقلال؟” – سياسي

حداد يكتب: ”أية جدلية للثقافي والسياسي في مغرب ما بعد الاستقلال؟”

لحسن حداد

استاذ جامعي/ وزير سابق

لعبت الثقافة، في شقيها العالمة والشعبية، في مغرب ما بعد الاستقلال، دورا طلائعيا في تأطير النخب والمجتمع.

الموازاة مع الصراع السياسي من أجل الاستقلال، ومن أجل السلطة (في فترة ما بعد الاستقلال)، كان هناك زخم ثقافي قوامه التدافع من أجل استلهام التجارب والنماذج التعبيرية من التاريخ والثقافة الشعبية، وتجارب أمم أخرى، وذلك من أجل بناء متخيل، متنوع المواقف، حول الوطن والمجتمع والذات والمجموعة…هذا الزخم هو الذي طبع الإنتاج المتفرد على مستوى المسرح (الهاوي والمحترف)، والثورة الغيوانية (بمجموعاتها المتعددة)، والإنتاج المعرفي والفلسفي والنقدي للمفكرين الرواد (علال الفاسي، العروي، الخطيبي، المرنيسي، الجابري وغيرهم)، والسينما الطلائعية وتجربة النوادي السينمائية، وخصوصية التجربة الروائية المغربية والشعر المغربي الحديث الثائر في وجه السلف العاشق للقافية والكلام المنظوم، وجمعيات التجديد الثقافي، خصوصا الأمازيغية منها، وتجارب إعادة كتابة الثقافة الشعبية، ولاسيما التعبيرات الغنائية والجسدية المتعلقة بالكينونة الهوياتية للمجموعات التي تؤثث الفسيفساء السوسيولوجية والثقافية المغربية متعددة الروافد.

هذا الزخم كاد أن يؤسس لقاعدة انطلاقة ثقافية حقيقية في المغرب، ولكن عملية أدلجة الثقافي التي اعتمدتها النخبة الفكرية آنذاك جعلت التجربة لا تنضج، بل وتوارى زخم الثقافة ما إن تجاوز الفرقاء مرحلة الصراع على السلطة، لتجد الثقافة نفسها يتيمة دون مثقفين ودون فعل ثقافي يؤسس لتعبيرات قوية حول التجربة المغربية، يكون لها صيت على المستوى الوطني والدولي.

طبيعي أن تتأثر الثقافة بالإيديولوجيا وتؤثر فيها، والعلاقة في ما بينهما علاقة معقدة، متشعبة، ومن الصعب جدا تحديد تمظهراتها المتعددة في منظومة القيم والتعبيرات والتمثلات الثقافية المتعددة. والإيديولوجيا إما واعية بحمولتها القيمية ذات الأبعاد السياسية أو مضمرة في تعبيرات أدبية وشعبية غير واعية بتمثلها لمنظومة فكرية وقيمية معينة. في المغرب، أثرت الإيديولوحيا بشكل مباشر في التعبيرات الثقافية، خصوصا العالمة منها.

وهذا التأثير أعطى بعدا قيميا للثقافة ذات الحمولة الإيديولوجية أو السياسية المباشرة، وجعل من التعبيرات غير الصريحة (ولاسيما التعبيرات الشعبية أو تلك التي لا تمجد الفعل السياسي الصريح) في مواقفها السياسية عبارة عن وعي شقي، أو انخراط في نظرة ميتافزيقية للعالم. وخلقت أدلجة الثقافة تعبيرات هجينة، ذيلية للمواقف السياسية، خصوصا في خضم الصراع على السلطة إبان العقود التي تلت استقلال المغرب.

في الفكر الماركسي، هناك من يؤمن بأن البنى الفوقية التعبيرية والسياسية والمؤساساتية والمجتمعية هي انعكاس مباشر للبنى التحتية المادية والاقتصادية. هذا ما يسميه فريدريك جيمسون (مستوحيا موقفه من رواد مدرسة فرانكفورت: أدورنو، وهوركهايمر، وبنيامين) “الماركسية البذيلة”. على الطريقة نفسه، فإن من ينتظرون من الثقافة أن تعكس موقفا إيديولوجيا أو سياسيا معينا فإنهم يخلقون منها “ثقافة بذيلة”، متدنية وهجينة.

لم تكن كل التعبيرات الثقافية العالمة التي ظهرت في فترة ما بعد الاستقلال هجينة وذيلية، ولكن أغلب النقاش الذي رافق الصراع الثقافي كان يدور حول ضرورة تسييس الثقافي لكي يساهم في الثورة المنشودة أو التغيير المنشود. بل إن النقد الثقافي كان يعطي بعدا قيميا للإشارات السياسية في التعبيرات الثقافية، وهي إشارات ومواقف كانت مطلوبة، خصوصا أن المؤسسات الثقافية (اتحاد كتاب المغرب مثلا) كانت لا تعدو كونها مواقع خطابية للقيام بالسياسة بطريقة أخرى.

أزمة الثقافة هي أزمة حدود، أزمة هوية، أزمة استقلالية، وهو ما فوت على الفعل الثقافي في المغرب فرصة التطور والنمو والتأثير وطنيا ودوليا؛ والنتيجة هي محاولات، هنا وهناك، ومبادرات فردية وجماعية، لم تؤسس لصناعة ثقافية لها ضوابطها وقواعدها وديونطولوجيتها، وتتفاعل مع السياسة والإيديولوجيا والمجتمع من منظور إنتاج التعبيرات، وخلق التمثلات في إطار جدلية مستمرة بين حرية التعبير الثقافي وقضايا المجتمع الملحة الأخلاقية والفلسفية والمعيشية والتاريخية والسياسية والمصيرية.

ترجع أزمة الثقافة إلى سوء فهم لدور المثقف ودور الثقافة، وكذا لعلاقة الثقافي بقضايا المجتمع. لقد خلقت مقولة المثقف العضوي التي قال بها غرامشي انتظارات مغلوطة لدى الكثير من المثقفين والنقاد المغاربة، وجعلت من المثقف مجرد أداة للتعبير المباشر عن هموم طبقة أو فئة معينة.

بل إن سيطرة تصور سياسي معين، في الجامعة وعلى مستوى مؤسسات وفضاءات الإنتاج الثقافي، جعل العضوية مرتبطة بما كان يصطلح عليها آنذاك بـ”الجماهير الشعبية”، وهو مصطلح ينم عن رومانسية ثورية لا أساس سوسيولوجيا لها. وهذا يعني أن نموذج المثقف العضوي كان مفهوما معياريا ملتصقا بإيديولوجيا معينة دون غيرها. لهذا، فرغم أن بلزاك، مثلا، يعبر عن هموم الطبقة البورجوازية الفرنسية في صراعها مع بقايا الفيودالية وحكم النبلاء في القرن التاسع عشر، فإنه من المنظور المعياري الذي قال به نقاد الثقافة المغاربة ليس عضويا، لأن العضوية بالنسبة لهم هي عضوية هذه الفئة العريضة (المتخيلة أصلا)، والتي تسمى “الجماهير الشعبية”.

من قالوا إن دور الثقافة ليس هو خلق الثورة ولكن المساهمة في الصراع والزخم الفكري لتمثل أقوى للواقع في كل تعقيداته، وللمجتمع في تنوعه وغنى روافده، كانوا قلة قليلة، لأن الكل كان منبهرا بالفن الطلائعي في نسخه السريالية والتجريدية، وسينما إزنشتاين ومن بعده كودار، والرواية الجديدة الفرنسية المحطمة للنسق والسنن البالزاكي، وبالبريشتية كثورة في حد ذاتها في عالم المسرح. استلهم كتاب أمريكا اللاتينية هذه الأفكار كذلك، إلا أنهم سألوا واقعهم، وواقع مجتمعاتهم، وطرحوا سؤال الحداثة في علاقته مع التعبيرات والتمثلات الموجودة في البنيات المجتمعية المكسيكية والكولومبية والشيلية وغيرها، واستطاعوا إنتاج ثقافة مقعد لها بشكل قوي على مستوى الثقافات المحلية، لكنها عالمية من حيث القضايا التي تطرحها.

في المغرب استوردنا الأفكار وفرضناها على واقع دون مساءلته وتمحيصه وفهمه؛ لهذا جاءت بعض أفلامنا ورواياتنا ضربا من الطلائعية المثالية التائهة في التجرد وطرح القضايا الإستتيقية التي لا يستوعبها الواقع الثقافي المغربي، لأن ما كان يهم هو تسييس الفعل الثقافي وإعطاؤه بعدا ثوريا، مهما كلف ذلك.

لنأخذ البريشتية مثلا.

قال برتولد بريشت بضرورة تقويض مقولة التعاطف بين المتفرج والممثلين على الخشبة في المسرح التقليدي (البورجوازي؟) عبر تكسير الجدار الخيالي الموجود بينهما، والتأكيد على أن الفعل المسرحي هو فعل تمثيلي محض، وليس انصهارا في عالم الحلم الذي تصنعه الخشبة، وهو الحلم الذي يستلب المتفرجين ويجعلهم يقبلون بوضعهم الاجتماعي. ولكن ليس هناك شيء يؤكد أن الحلم يخلق الاستلاب، ويحول دون وجود وعي طبقي أو غيره؛ بل إن مسرح بريشت ومن تبعه في الغرب كان يثور ضد نماذج ثقافية معينة، بالإضافة إلى الهدف الثوري الذي كان يقول به. في المغرب لم تكن هناك تجربة مسرحية بقواعدها وأنماطها أسست لممارسات متجذرة وجبت الثورة ضدها.

والبريشتيون في المغرب ثاروا ضد فراغ، وكل ذلك في إطار فعل مثاقفتي يستورد صراعات فكرية بعيدة عن البيئة المغربية.

من جهة أخرى، ما سماها ماو تسي تونغ “الثورة الثقافية” (التي تأثر بها الكثيرون كمقولة) كان لها أثر وخيم في البنيات السوسيولوجية التقليدية في الصين، التي هي أساس الفعل الثقافي، مساندا كان أو طلائعيا. فقد كان هدم وسائل إنتاج الثقافة البورجوازية – كما كان يسميها ماو ومن بعده بول بوت وغيرهم– مغامرة ضد الثقافة، لأن الثقافة في أصلها فعل متجذر، وملتصق بالوضع القائم، ورغم أن هناك من يثور ضدها أو يقوض قوالبها (كبريشت، وكودار، وأوزو، ونيرودا، وروبيرت كريي، وميرو، وغيرهم) فإن كنه الثقافة العالمة بورجوازي بالمعنى الألماني للكلمة، أي إنه فعل مدني متواطئ موضوعيا مع الوضع القائم. ماو كان يفهم هذا، لكن الثورة الثقافية التي قال بها قوضت حتى الأسس التي يمكن بناء فكر طلائعي تحرري عليها.

وحتى الثقافة الشعبية لا تعدو احتفاليتها، وتركيزها على الجسد، ونقضها للأخلاق البورجوازية (قراءة باختين لرابليه) [1]كونها فعلا هامشيا، أي إنه غير ممكن إلا على هامش الثقافة المسيطرة. بل إن الهامش يستمد ثوريته وموقفه النقدي من الثقافة السائدة، التي عادة ما تكون ثقافة طبقة وسطى تستمد جذورها من التاريخ والإيديولوجيا ومفهوم متعال للوطن والمجتمع. لا يمكن للثقافة الشعبية أن تكون شعبية في غياب ثقافة بورجوازية عالمة وغير عالمة. الثقافة الشعبية هي في أصلها فعل مضاد لا وجود له دون وجود معيار مجتمعي ينتفض ضده (إن قبلنا بأطروحة باختين حول دور الثقافة الشعبية عند رابليه وبوكتشيو وفضاءات أوربا الثقافية البديلة في عهد النهضة).

أزمة الثقافة هذه هي التي جعلت المثقف في المغرب غير مؤثر لا في السياسة ولا في المجتمع. والإرهاصات التي شهدناها في الستينيات والسبعينيات، التي كان فيها مثقفون يؤثرون في الجامعة، وسوق الأفكار، وفي رجال السياسة، صارت في خبر كان الآن. توارى دور المثقف وأصبح يغرد في واد بينما المجتمع في واد آخر.

أضف إلى هذا أن الإشعاع الدولي للمثقف المغربي شبه منعدم، وذلك لأن المؤسسات أهملته على عكس ما يقع في كثير من بلدان الجنوب، ولأنه لم يواكب قضايا العصر ووسائله في التواصل، ولأنه أصابه الإحباط نتيجة تبخر أحلام الثورة والتغيير، ونتيجة تواطؤ النخبة مع الوضع القائم.

لهذا وجبت إعادة النظر في الفعل الثقافي برمته في المغرب.

وهذا يقتضي بعد نظر ورؤية حول دور الثقافة ودور المثقف ومكانة المغرب الثقافية في منظومة القيم الكونية؛ الأمر الذي يتطلب وجود تصور مستقبلي وتدبير إستراتيجي، ووضع أسس صناعة ثقافية متينة، وتخصيص الموارد اللازمة للنهوض بكل أشكال التعبيرات، وتحصين التراث وتثمين الفضاءات، وصقل كفايات الفاعلين والرواد والمؤثرين والشباب والمجموعات المتعددة…فلا تنمية بدون ثقافة، ولا هوية بدون ثقافة، ولا مستقبل دون فعل ثقافي فاعل، ناجع، متجذر، ناقد ومنتقد، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ مستقل وقوي.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*