فنجان بدون سكر:
حين يصير التقاعد ظلًا للمعاناة.. من خدمة الوطن إلى طوابير الانتظار
بقلم عبد الهادي بريويك
في زاوية منسية من هذا الوطن، يجلس رجل ستيني على كرسي خشبي متهالك، يتأمل صمت جدران بيته البسيط، وفي عينيه بقايا حكايات، تعب العمر، ومرارة السؤال: “هل كان هذا جزائي بعد كل تلك السنين؟”
وفي حي شعبي آخر، تُعدّ أرملة فطور الصباح لأحفادها بما تبقى من دقيق وكسرة خبز، تحاول أن تُقنعهم أن الحياة ما زالت بخير، بينما هي تداري الدموع عن أعينهم.
هكذا أصبح واقع الآلاف من المتقاعدين والأرامل بالمغرب: وجوه نحتها الزمن، وقلوب أنهكها الانتظار، يعيشون على الهامش، يصارعون الغلاء بلا معين، في وطنٍ يبدو أنه نسيهم، أو تجاهل وجودهم عمدًا.
أجساد أنهكها العمل، وجيوب أنهكها الغلاء لا يحتاج المتقاعد المغربي لمن يُخبره أن الأسعار ارتفعت، ولا أن البنزين زاد، ولا أن الخبز صار يؤكل بحساب. معاشه الهزيل، الذي لا يتجاوز أحيانًا 1000 أو 1500 درهم، يصرخ بذلك كل يوم.
رجل قضى أكثر من ثلاثين عامًا في خدمة مرفق عمومي، أو امرأة اشتغلت معلمة أو ممرضة، يجدان نفسيهما فجأة عاجزين عن شراء دواء الضغط أو السكري، أو حتى دفع فاتورة الكهرباء.
لقد انتقلوا من حياة الكرامة إلى حياة الحسابات الدقيقة: “كم تبقى من الدراهم؟ هل نشتري الخبز أم الدواء؟ هل نُطفئ المدفئة أم نحتمل البرد؟”
والأرامل وحدهن في معركة الحياة، بمعنى أن تكوني أرملة في هذا البلد، فذلك يعني أنك صرتِ تحملين همّك وهمّ من رحل.
معاشات ذوي الحقوق، إن وُجدت، لا تكفي لشيء. مبلغ زهيد لا يغطي حتى مصاريف دفاتر المدرسة، أو حليب الأطفال. ومع ذلك، تقف تلك النسوة بكل صبر أمام الإدارات، بأعين خجولة، وقلوب مكسورة، يطاردن أوراقًا لا تنتهي، وكأن كرامتهن مرتبطة برقم تسلسلي في ملف قديم.
تقول إحداهن: “ما بغيتش صدقة، بغيت غير حقي.. بغيت نحس براسي ماشي عالة على ولادي.”
وما يُوجع أكثر من الفقر، هو الإحساس بالتجاهل. لا استراتيجية وطنية واضحة، لا زيادات منتظمة في المعاشات، لا برامج حقيقية تُراعي الشيخوخة والمرض والوحدة.
الحكومة تتحدث بلغة الأرقام والإصلاحات التقنية، بينما الحقيقة موجودة على الأرصفة، في طوابير المصحات، وفي رسائل الأمل التي لم تصل.
يحتاج هذا الوطن إلى أن يُصغي إلى صمت المتقاعدين، إلى تنهيدة الأرامل، إلى ضحكة الأطفال التي تختنق في وجه الجوع.
فهل من بصيص أمل؟ والحل لا يكمن فقط في رفع المعاشات، بل في إعادة الاعتبار للإنسان، في سنّ قانوني يحمي الشيخ من الحاجة، ويمنح الأرملة سندًا حقيقيًا، ويجعل التقاعد بداية لزمن راحة، لا بداية للمعاناة.
نحتاج إلى صندوق تضامن حقيقي، إلى سياسة قلبها إنساني لا رقمي، إلى برامج تحفظ الكرامة، وتزرع الأمل في النفوس المنهكة.
فإلى كل من يقرأ هذا، تذكّر أن خلف الأرقام وجداول التقاعد، هناك وجوه، هناك قصص حقيقية، هناك دموع لا تُرى، تذكّر أن كرامة المتقاعد ليست منّة، وأن الأرملة لا تطلب شفقة، بل عدالة. في وطن لا يكرم شيوخه، لا يُبشّر بمستقبل كريم لأبنائه.
فلنُعد لهم بعضًا من الجميل، قبل أن نكتب عنهم رثاءً مؤجلاً في منشور فايسبوكي باكٍ.