swiss replica watches
طابور لكلام … – سياسي

طابور لكلام …

قصة قصيرة :
طابور لكلام …
بقلم عبدالهادي بريويك
أنفاس الفجر أخذت تزحف نحو الافول والذوبان، هذا وقت مناسب لاختراق هذا الظلام الدامس وفتك ستار الخوف والفزع..لا شك أن في هذا الوقت المبكر سيجد ( با المختار) مكانا خاليا بين جدران المدينة المتآكلة وهناك سيجلس ويتربع في قرفصاء حتى يبزغ الصباح ..وتتفتق لآلئ النور ..سوف تفتح المدينة أبوابها الخضراء، ويكون هو من أحرز كسب السبق في الصف الحلزوني .
نعم سيكون المكان خاليا في هذه المرة لأنه مر بعدة تجارب في أيامه الفارطة، فكان دائما يتعطل عن اللحاق بكوكبة الجياع التي كانت تتسلم ورقة الشغل لمدة أسبوع ..كان دائما يجيء وفي يده بطاقة التعريف الوطنية، وينتصب على تلك الجدران المتآكلة الأركان..وكان يحمل في يده الأخرى قفة صغيرة فارغة تلعب بها ريح الصباح الباردة حتى تكاد من شدة إعصارها أن تقذفها عبر ذلك المنحدر الطويل..لكنه كان يجيء فيجد سلسلة من الأشباح كلها متراصة بين تلك الجدران الحزينة..كانت تشيع من وجوههم معالم الفقر والتشرد والضياع ..ثيابهم كلها اخترمتها عوادي الزمان، أقدامهم كان يسيل منها ماء التعب والضنى، عيونهم وقد غارت نحو المجهول، لكنها ما زالت تتطلع بلهفة نحو أفق الحياة المعركة..
ذهل با المختار حينما وجد هذه الأشباح التي بلغت عددا كثيرا وهي منتصبة صفا طويلا ..لا تبدو بينهم مجرد ثغرة واحدة حتى يستطيع با المختار أن ينفذ إليها خلسة وحتى لا يضيع وقت نهاره وهو ينتظر دوره في اللحاق بأولئك الذين يذهبون وراء كسب العيش البعيد..أحس با المختار بخيبة قاتلة حطمت أعمدة آماله في ذلك الصباح ..
إنه سيبقى طيلة النهار يتعبد أفول هذا اليوم، ويزحف الى “الموقف” مرة أخرى وحيدا قبل أن يلفظ الفجر أنفاسه، أعد جميع العدد من فراش ومأكل، ولف تلك العدد في ( صرة) بالية ووضعها تحت ذراعين وذهب، أقسم أن ينتقم من ذلك النهار الذي ضيعه وأحرقه في اللاشيء.
لم تبق غير خطوات قليلة الى ذلك المكان الذي كان يتصوره خاليا من تلك الأشباح الحزينة..كانت تزرع في قلبه الرعب والفزع وتجعله أكثرهم جوعا وفقرا وضياعا ..” لا شك ساصبح مثلهم، إذا قاسيت ألم الانتظار بين أعتاب تلك الجدران المنخورة” ..لفظت أنفاسه هذه الكلمات وهو يستحث خطاه السريعة ولفحات البرد القارس تزحف نحو أنفه، فتشل خطواته حينا، لكنه ظل صامدا، يقاوم الإعصار الذي كان يقف أمامه، فكانت لا تؤثر في نفسه هذه الآلام التي كانت تلسعه بمرارة السحر، أمله مازال مشجبا بين أعمدة فكره، فراودته فرحة جنونية حينما يجد ذلك المكان خاليا تصفر فيه الريح وتقلع غبارا بين جنباته السوداء..هناك سيقبع ويتخذ القفة زيادته حتى تنفتح ابواب المدينة الخضراء ..
لم تبق غير خطوات قليلة بينه وبين ذلك المكان، عرج عن يمينه ليأخذ طريقه توا الى ” الموقف” ومن هناك سيرسل حدقات عينيه لتتأمل ساحة ذلك المكان ..أشياء فوضوية كانت تبدو وسط الظلام، تدور في ذلك المكان، ربما ” جنون”_ بستكين الجيم – هي الأخرى تبحث عن فرصة شغل..لم تستقر تلك الصور من بعيد في بؤرة فكره، لكنه أخذ يستقرئ عن قرب معالم تلك الأشباح..هم رجال مثلي لا شك فيه، أخذته رعشة قوية كادت تذهب بعقله وتسلمه إلى الدوران.
أهم في هذه الساحة جاؤوا يتسابقون الى هذا المكان؟!! الله ..الله ..ما الذي دفعهم الى هذا السباق نحو هذا المكان ؟! الجوع..الفقر ..الجيش الصغير الذي يزحف في البيت ؟! واخذ يكور يديه ثم يعتصرهما لعلهما تلينان من شرارة أعصابهما، وأسند ظهره الى الجذار المنخور، يتأمل ما سيلحقه من مرارة الهزيمة في هذا النهار كذلك إذا لم تسعفه الظروف في تسليمه فرصة شغل ليذهب في اختطاف أوراق الحياة لأطفاله الصغار ..
كان قد سئم الوقوف بين هذه الجذران.. كان لا يقطر منها سوى صدأ الحياة وعفونتها..
تلك الأشباح وما كان ينضح من معالمها كآبة المرض والموت ..كانت تنذر هذه الصور في نفسه باختناق قاتل تسلمه الى الانتحار، والتخلص من زهرة حياته، لكن أعصابه أخذت تتلاشى وتهدأ، وفتر ذلك الإعصار الذي كان يهد أطراف جسده ويضع في حنجرته غصة مريرة، وبعد حين أخذ صفه حتى لا يتلاحقه زحام آخر فيتركه يتلوى بين أحضان آلامه وراء قافلة الجياع، فأخذ قفته المثقوبة ووضعها بجانبه ليتكئ عليها، ورفض أن يضعها كوسادة يستريح عليها حتى مجيء الصباح..إذ أن هذه الأشباح قد عكرت صفو حياته، وأسلمته لأن يعيش في سماء كثيرة الإصفرار والإعصار، فأغلقت جميع أبواب الأمل التي كان قد نسجها وهو مايزال في داره بين أطفاله وزوجته المسكينة..فأسلم نفسه إلى الصباح ريثما يجيء من يطلب يدا عاملة من موقف الاشباح ، ساعتئذ يوزع..عليهم بضعة كلمات أو أوراق عمل ليشتغلوا.. تبيح لهم أن يشتغلوا في أماكن بعيدة عن المدينة الخضراء ، مدة أسبوع ثم يعودوا بعد ذلك ليبدأوا مرحلة جديدة في اكتساب مكان وسط الصف الحلزوني حتى يلوح لهم درب الانتظار.
هذه العاشرة ولم يلحقه دوره، ما أصعب طول هذا الصف الذي يشبه صف الراغبين في مغادرة الوطن أمام سفارات الدول الأجنبية، فقال ربما يلحقني دوري ! ما أصعب طول هذا الطوفان الذي يرود هذه الجذران الصماء . بدأ يتحرك من مكانه المعهود الذي كان قائما فيه قبيل السحر، ونشوة الفرح تزحف إلى أنفاسه المقطوعة فتبلله بقطرة انتظار، لكن ظل هذا الصف ملتصقا بمكانه في هذه المرة، أبت القافلة أن تسير..ما الذي أوقفها..؟! أطلقونا من هته القيود ياسادة فالوطن للجميع ..قال هذه الكلمات وسط الزحام ولكن دون جدوى ..أنفاسه المبهورة ظلت تضيع في الفراغ ..وفي يده بطاقة هويته الوطنية .
وعدوه في المساء، لكن ما جدوى الانتظار، إن الصف طويل، ووقوفه أمام هذه الجدران يشكل موته وفشله، هل سيجد في المساء بوثقة أمل ينفذ منها ومن خلالها الى مطلبه المأمول، لكنه عبثا لاحقه الدور، فبقى وحده يتشنج، ويصفع رأسه تارة، ورجع خائبا مخنوقا نحو داره تصفعه رياح المساء الباردة .

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*