«الثقة ستبنى بصبر نصا بعد نص» بعد تعذر تشكيل حكومة ائتلافية بسبب رفض «الأحزاب الحكومية» التقليدية المشاركة فيها، على ما قال ماكرون.

هذا هو الوضع بفرنسا اليوم، رئيس بدون أغلبية برلمانية، وأحزاب ترفض الدخول في ائتلاف حكومي. الفرنسيون على خلاف العديد من البلدان الأوروبية لم يتعودوا على التفاوض من أجل تشكيل أغلبية حول برنامج أو تعاقد حكومي، وهو تقليد غير موجود في الثقافة السياسية الفرنسية، كما هي العادة في العديد من البلدان الأوروبية مثل إيطاليا، بلجيكا أو ألمانيا. نظام الجمهورية الخامسة الذي وضع أسسه الجنرال دوغول على مقاسه في سنة 1958، كان يسمح له بالتوفر على أغلبية في البرلمان وتطبيق برنامجه السياسي.

هذا النظام الأغلبي كان يجعل من الرئيس المنتخب مباشرة من طرف الفرنسيين، سلطة عليا أقوى من البرلمان نفسه. وهو ما تحقق لايمانويل ماكرون في عهدته الأولى، حيث منحه الفرنسيون الأغلبية المطلقة لتطبيق برنامجه السياسي. اليوم، حتى بعد نداء الرئيس وطلبه منح الأغلبية، رفض الطلب، بل إنهم منحوا اليمين المتطرف أكبر فريق برلماني في تاريخ فرنسا، بحوالي 89 نائبا، ومنحوا ائتلاف اليسار فريقا مهما يصل إلى 151 نائبا بالإضافة إلى اليمين الكلاسيكي، مما جعل البرلمان مشتتا وبدون أي أغلبية ممكنة.
المعارضة اليسارية، بزعامة جون لوك ميلانشون، قدمت ملتمس رقابة من أجل إسقاط حكومة إليزابيث بورن هذا الأسبوع، ورغم عدم تمكنها من الحصول على الأغلبية، فإن هذا الملتمس في بداية الولاية التشريعية الجديدة هو مقدمة لما ينتظر الرئيس إيمانويل ماكرون وأغلبيته من معارك داخل البرلمان الفرنسي. وندد نواب فرنسيون معارضون بتعاون وثيق حصل على ما يبدو بين ماكرون والعملاق الأمريكي للنقل الرخيص و»أوبر»، في وقت كانت الشركة تحاول الالتفاف على التنظيم الحكومي الصارم لقطاع النقل.
وفي اتصال مع وسائل إعلام فرنسية، أكدت شركة «أوبر فرنسا» أن الجانبين كانا على اتصال، وتمت الاجتماعات مع ماكرون في إطار مهماته الوزارية العادية.
وقال قصر الإليزيه، في بيان له في ذلك الوقت، كان ماكرون، بصفته وزير الاقتصاد، على اتصال «بطبيعة الحال» مع «كثير من الشركات المشاركة في التحول العميق الذي حصل على مدى تلك السنوات المذكورة في قطاع الخدمات، و(هو تحول) كان لا بد من تسهيله عبر فتح العوائق الإدارية والتنظيمية».
هذه القضايا التي نشرتها الصحافة الفرنسية حول علاقة ماكرون ببعض الشركات الأمريكية من شأنها إضعاف شرعيته أمام الرأي العام الفرنسي في الوقت الذي يفتقد فيه للأغلبية البرلمانية.
هذا الوضع السياسي الجديد الذي يتسم بغياب أغلبية حكومية في البرلمان، لا يترك لماكرون خيارات كثيرة، إما التفاوض على برنامجه الإصلاحي نقطة بنقطة، وتشكيل أغلبية حول مختلف المشاريع المقدمة إلى البرلمان أو تجاوز البرلمان من خلال إصدار مراسيم رئاسية، لكن هذا الاختيار يمكن أن يشعل أزمة سياسية واجتماعية بفرنسا في حالة تجاوز المؤسسة التشريعية، وإصدار مراسيم قوانين رئاسية.
وسيكون الاختبار الأول للأغلبية الرئاسية في بداية الولاية التشريعية هو ملف القدرة الشرائية، في ظل التضخم وارتفاع الأسعار وحالة الحرب التي تعيشها أوروبا والتي أثرت بشكل سلبي على أداء الاقتصاد الأوربي الذي شهد تراجعا كبيرا لقيمة اليورو مقارنة بالدولار.

وسيناقش هذا الموضوع في مجلس الوزراء لهذا الأسبوع وسيتم عرضه على البرلمان اعتبارا من 18 يوليوز المقبل، وسيبين مدى قدرة الوزيرة الأولى اليزابيت بورن على إيجاد أغلبية لمشروع قانونها الذي سوف تعرضه على البرلمان. وهو موضوع يمس كل الفرنسيين في أجواء ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية.
وستكون أمام الحكومة مهمة تمرير إصلاحاتها من دون أغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية وفي مواجهة معارضة غاضبة.
وكانت مواقف المعارضة جد سلبية حيال الحكومة الجديدة المؤلفة من 41 عضوا بينهم 20 امرأة. فحركة فرنسا الأبية اليسارية اعتبرت أنها ليست «حدثا مهما» وأنها تكرار لما سبق، وتقصد بذلك أن ماكرون لم يأخذ بعين الاعتبار نتائج الانتخابات التشريعية. في حين رأت مارين لوبن، زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي حقق نتائج غير مسبوقة في الانتخابات التشريعية، أن إيمانويل ماكرون «يتجاهل مرة جديدة قرار صناديق الاقتراع وإرادة الفرنسيين برؤية سياسية جديدة».

وهي بذلك ترد على ماكرون الذي رفض أي تحالف مع اليمين المتطرف من أجل تشكيل أغلبية حول الحكومة.
المسار الأخير أمام الرئيس للبحث عن أغلبية جديدة هو حل البرلمان وانتخابات مبكرة، لكن خسارتها، تعني انتحارا سياسيا، يفرض على الرئيس الاستقالة إذا لم يمنحه الفرنسيون الأغلبية في حالة دعوته إلى انتخابات سابقة لأوانها.