هل الحكومة الحالية لها رؤية ثقافية حديثة لمواجهة تحديات عصر العولمة؟ وهل لها سياسة ثقافية لتحقيق هذه الرؤية؟
هل الحكومة الحالية تملك فلسفة للعمل الثقافي؟ وهل تملك برنامجا ومخططا لإبراز الدور القيادي للمغرب انتماء وهوية ( تاريخا وجغرافيا وإنسانا)؟
ماذا أنجزت الحكومة من مشاريع لتجديد وتطوير كل المجالات الثقافية من الكتاب إلى المسرح إلى السنيما والفنون التشكيلية والموسيقى والفنون الشعبية والثقافة الجماهيرية والثقافة الأمازيغية؟ وماذا حققت في مجال صيانة وحماية التراث والآثار من الاندثار؟
هل يمكن تصور إنجاز مقومات للتنمية الثقافية والحضارية بدون الاعتماد على سياسة ثقافية لصناعة التاريخ وتوجيه الإنسان عبر ترسيخ القراءة في أبنية الأوساط التعليمية والأسرية والإعلامية وفي كل مساحات الفضاء العام…؟
كم ينفق المواطن المغربي على القراءة؟ وكم عدد الأميين الألفبائيين في مجتمعنا؟ وإذا أضفنا إليهم الأمية الثقافية قد نصل إلى أرقام مفزعة تحذرنا من انقراض ثقافة القراءة والكتاب.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها على كل مهتم بالشأن الثقافي مما يجعل اللوحة كالحة والأفق إشكاليا !!!..وهل يعقل أن يتحدث أي مسؤول حكومي عن المشاريع الثقافية في غياب استراتيجية ثقافية وطنية في مجالات التربية والثقافة والإعلام، وفي غياب سياسة تنموية ثقافية للنهوض بالفعل الثقافي داخل كل الفضاءات وأماكن العيش وأماكن الاستقبال التي يعيش ويتحرك فيها الأفراد بالإدارات وأماكن العمل والمستشفيات والمدارس ودور الشباب ودور الثقافة وفي وسائل النقل؟؟
هي أسئلة محرقة محرجة تسائل المسؤولين عن الشأن العام في تجاهلهم للشأن الثقافي الوطني و”تفضيلهم” للمشاريع التي “تخدم” متطلبات المعيشة المادية..

مما ساهم في ما نحن فيه ونشكو منه من خواء فكري وفراغ ثقافي مع ترك الساحة الثقافية لمن يخلطون عن عمد بين الثقافة والتفاهة، مما أدى إلى انتشار حالة الاغتراب واللامبالاة والعبثية في صفوف الشباب دفعتهم إلى الارتماء في أحضان “ثقافة” الابتذال والجهل، ثقافة “الترفيه” والاستهلاك السريع المستهترة بالقيم والاخلاق التي لا صلة لها بالحاجات المادية والمعنوية والروحية للفرد والجماعة.
تشهد الساحة الثقافية المغربية بكل فروعها وتياراتها تراجعا هائلا الى الخلف بل ردة ثقافية تمثلت في:
تردي وضع القراءة وانعدام ثقافة الكتاب في مدارسنا وبيوتنا ودور شبابنا، وفي هذا الإطار كشفت دراسة دولية حول تطور الكفايات القرائية (2016) عن مؤشرات تتعلق بالمكانة التي تحتلها المكتبة المدرسية داخل المدرسة المغربية ذلك ان 9% فقط من المؤسسات المدرسية هي التي تكاد تتوفر على مكتبة تضم اكثر من 500عنوان في حين ان 63% لا مكتبة فيها.. واذا اضفنا الى هذا الرقم الكارثي غياب ثقافة المطالعة داخل الاسرة وبالتالي غياب مكتبات منزلية تكون ملاذا معرفيا للطفل ولأبويه فلا ننتظر إلا الفراغ المعرفي والجهل والإحجام عن القراءة لذا على الحكومة وعلى وزاراتها في التربية والتعليم والثقافة والرياضة والشباب الوزارة الوصية وقطاعات الشباب والتربية صياغة مشروع وطني للتنمية الثقافية على أسس واقعية لتغيير البنية الفكرية والمادية للمجتمع، وليس إقامة المعارض المحلية والوطنية للكتاب أو الاحتفال باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وموقف الكاتب احمد بوزفور الرافض ل(جائزة المغرب للكتاب)سنة 2004 احتجاجا على الوضع المتردي للثقافة والمقروئية في المغرب خير دليل على السكتة الثقافية أو الموت الثقافي خصوصا حينما يصدر إبداع أدبي ولا تباع منه إلا نسخا لا يتجاوز عددها عدد أيام السنة الميلادية مع العلم أن المغرب يضم أكثر من 25 جامعة واكثر من 400الف مدرس وما يفوق 37مليون نسمة !!!!
في المقابل هناك هيمنة لسياسة التطبيل للمهرجانات “الفنية” الصيفية المطبوعة بالطابع السياحي والتجاري، المدمرة للبنيات والهياكل والقيم المادية والروحية، القاتلة للإبداع، المدغدغة للمشاعر الزائفة، وهي لا تغني العقل ولا الروح، وإنما تزيد من إشاعة البهرجة الشكلية والصور الكباريهاتية المبتذلة بدل تشجيع وتثمين الرقص الشعبي أو الرقص الفني الراقي لينحدر بنا هذا الشكل من “المهرجانات الفنية” انحدارا شديدا إلى قاع الرداءة والبذاءة وفي خدمة أغراض سياحية وتجارية لا في خدمة حضارة أمة.. أما الانتاجات الثقافية الاخرى(الرواية – الشعر- المسرح – السنيما-…) فقد تقلص حجمها ودورها وتضاءل اشعاعها و ما هو موجود اغلبه يبتعد كثيرا عن قضايا المجتمع وآمال الامة. واذا كان التعليم يظل اقوى الوسائط التي تنتقل من خلالها الثقافة بالإضافة الى الاعلام كأقوى وسائل التأثير والتكوين الثقافي لعقلية المواطن وخاصة جيل الشباب الجديد، فانه لا يخفى على احد واقع الحال في تعليمنا العام والجامعي وما يعانيه من مشاكل مزمنة ..تعليم ينتج أمية وظيفية وثقافية تعيد انتاج نفسها بأعداد وبعناد.. تعليم غير متكيف مع البيئة والعصر.. الكتاب اصبح اليوم سلعة نادرة.. الاعلام يغلب عليه الايديولوجيا على الثقافة الى حد الابتذال..

اننا امام ازمة فكر وازمة ثقافة والمسؤولين على الشأن الثقافي أصبحوا عاجزين عن ملاحقة هذه الأزمة وتحليلها في جذورها وأبعادها الحقيقية وظلوا مشدودين إلى قشرتها السطحية والتعامل معها وكأنها ظواهر مفصولة عن خلفياتها التاريخية والمجتمعية. اننا في حالة استرخاء فكري وخلط “متعمد” بين مفاهيم الثقافة والاعلام والاعلان مما ساعد على الجهل والتضليل والتحريف والإفقار الفكري وتزايدت أعداد إغلاق القاعات السينمائية او تحولها الى اسواق تجارية ممتازة، وهدم وهجرة المسارح وقاعات العروض واهمال دعم الكاتب والكتاب واحتقار المثقف والمبدع والفنان…
ماذا قدمت هذه الحكومة للثقافة المغربية؟

وماذا قدمت للمثقف والكاتب والمبدع غيرالخطاب الانشائي المليء بالأحلام والطموحات التي تقترب من الاوهام الثقافية بسبب غلبة الطابع التكنوقراطي على الفريق الحكومي وعلى المسؤولين على الشأن الثقافي والتعليمي والاعلامي، فهم يتعاملون مع الثقافة تعاملا جزئيا لا يأخذون بعين الاعتبار ان اصلاح حال الثقافة في اي مجتمع يتطلب بالضرورة اصلاحا تحتيا في شؤون الاقتصاد والاجتماع والاعلام والتعليم والشباب.. والا اصبح الاصلاح مجرد قناع أو محض فرقعة اعلامية ابعد ما تكون عن جوهر الثقافة ودورها.

وان تطبيق مبدأ “الترشيد” والتقشف على الصعيد السياسي والاقتصادي ليس بالضرورة مبدأ يمكن إسقاطه على المجال الثقافي الذي يعاني منذ عقود من تهميش الثقافة والمثقفين، ومن تراجع الإنتاج الادبي والفني، وتوقف الكثير من المجلات الثقافية والفنية والدوريات عن الإنتاج والصدور، اضافة الى قلة الاشكال الموسيقية الرفيعة والرصينة مثل الأوبرا والتأليفات الموسيقية الابداعية، لتسود محلها الأشكال الغنائية الجديدة تستهلك كما يستهلك (الهامبرغر) كنمط من الاستهلاك التجاري والسياحي، وخير مثال عن ذلك اننا ما نزال نعيش صدمة الاشكال الغنائية “الجديدة” مع “طوطو” واشباهه وما يستنسخ عن اشكالهم الغنائية والموسيقية بل وبحضور رسمي للمسؤولين على الشأن الثقافي !!!!
هذه الرؤية “الطوطوية” للفن والغناء ناجمة عن غياب أهداف سياسة ثقافية مرحلية ومستقبلية تعيد استنهاض اسس الانبعاث الثقافي الفني المغربي مقابل سياسة ثقافية استهلاكية متلبسة بمفاهيم الرفاهية الكاذبة وقيمها الاستغلالية، بل اننا نرى غياب صناعة ثقافية- فنية وطنية يتطور فيها الانتاج الفني والثقافي حتى يعكس تنوعا في الحاجات الفنية وطرق إشباعها لدى كل الأفراد والجماعات.
الثقافة… تنمية حضارية

يقول البعض انه من الطبيعي ان يؤدي دخول المغرب في النظام العالمي الجديد والانخراط في دورته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وقبلها التاريخية سيؤدي حتما الى بروز حركة قوية لتحديث البنيات الاجتماعية بما في ذلك البنيات الثقافية على اعتبار أن الحداثة الجديدة تعبير عن حاجة إلى إحداث تغييرات وظيفية وبنيوية في هيكل النظام الثقافي السائد لكن فشل التحديث وإخفاق عملية التأقلم والتكيف الجماعي مع الحضارة الغربية الرأسمالية الحديثة أدى إلى ردة وعودة التيارات الفكرية التقليدية بشكل كبير لمقاومة “الغزو” العولمي الحديث وهذا يعكس عجز الثقافة الحديثة ونظامها الاستبدادي الجديد كما ان النخبة الجديدة من هؤلاء التكنوقراط لم تنقلوا من الثقافة الغربية إلا جانبها الاستهلاكي البرجوازي الرجعي .
إنه من المستحيل التفكير بسياسة ثقافية دون أن تكون هذه السياسة مرتبطة بمؤسسات وطنية تطبقها وبمصالح اجتماعية محددة تتحكم بهذه المؤسسات ، فالوصول الى ثقافة جديدة حداثية وأصيلة تحفظ الانتماء والهوية والتراث المادي والرمزي في نفس الآن ليس قضية معطاة تحصل تلقائيا، إنما هي قضية نضال اجتماعي وسياسي تستند إلى برنامج ثقافي وطني يحدد الأولويات والاستراتيجية الضرورية لتحقيق جو يتيح إمكانية التطور الثقافي والتحرر العقلي وهذا البرنامج لا يعني ان تكون هذه الثقافة رجعية او تقدمية لان هذه التصنيفات لا معنى ثقافي لها، فالتقدمية والرجعية لها ارتباط بالمذاهب السياسية والاجتماعية اما الثقافة فهي حركة الانتقال من حالة فقدان القيم والمعايير ومن حالة التوحش الى حالة المدنية، ومن العنف الاعمى والقمع الى الحوار والتفاهم وتبادل الخبرة والتجربة بين افراد وفئات الجماعة
إن اهتمام الحكومة بتطوير الثقافة الشعبية أو الثقافة الامازيغية ورعايتها بدل الاهتمام ورعاية ودعم ثقافة النخبة( الفنون التشكيلية والفنون الجميلة..) يعني ضرورة ان تقوم السلطة السياسية والثقافية برفع التهميش عن ثقافة الانسان الشعبي والاقرار بوجود ثقافتين والعمل على تعايشهما، حيث انه لا يجب ان نقدس البذاءة والرداءة ونغبن الثقافة الاصلية وان مثل هذه السياسة الثقافية تخفي نفسا شعوبيا ونظرة خاطئة للثقافة قد تحول المجتمع برمته الى مجموعة من الأفراد المتنابذين الفاقدين لكل أرضية للتفاهم والعمل المشترك وتكرس الوضع القائم بوجود ثقافتين الاولى للخاصة والثانية للعامة.
إن حكوماتنا السابقة والحالية لا تزال تعتبر الثقافة مادة كمالية وليس آلية لتحرير الإنسان وتطوير امكانياته الذاتية لذا تكتفي بالدعاية والترويج لبضاعات “ثقافية” على الطراز الفولكلوري لغرض الترويج السياحي، وتقوم بدعم المهرجانات الصيفية (مهرجانات الغناء والرقص) التي تصرف عليها مئات الملايين من الدراهم دون ان تغرس قيما للجمال والفن والتسامح بل تساهم في تلوث القيم الاخلاقية والانسانية، انه اختراق ثقافي قصد السيطرة على ( الادراك لاختطافه وتوجيهه وبالتالي سلب الوعي والهيمنة على الهوية الجماعية، وبالسيطرة على الوعي يتم اخضاع النفوس وتعطيل فاعلية العقل والتشويش على نظام القيم وتنميط الذوق وقولبة السلوك.) محمد عابد الجابري
إن سياسة ثقافة ” الواجهة ” أدت الى تخلف الذهنية وتسطيحها وأعاقت تطور المنظومة الأخلاقية ومنظومة القيم الاجتماعية كما أعاقت حدوث ثورة في الذهن والذات والمحيط لأنها ظلت تؤثر فقط على القشرة الخارجية للذهن والتي تنهار عند كل ازمة فتعود الشخصية الى نظرتها المتخلفة.
أين سياسة التنمية الثقافية للحكومة من أجل النهوض باللغة والثقافة الامازيغيتين في الإعلام والتعليم وكل المؤسسات الوطنية تشريعا وقوانين، وليس تدجين هذه اللغة والثقافة وتهجينها عبر صور فولكلورية او متحفية وهو ما سبب في تسريع سيرورة استيلاب الهوية الثقافية الأمازيغية وإفراغها من البنيات المكونة للشخصية الثقافية المغربية !؟
أين السياسة الثقافية للحكومة من أجل تنمية الثقافة الشعبية وهي تراث ضخم يشمل كل المعارف المتداولة في مجتمعنا وجماعاتنا وتمثل كل الخبرات المكتسبة من المهن والحرف، وهي في الأخير حصيلة ما يمتلكه مجتمعنا من فكر وقيم وأنماط سلوك اجتماعية !؟
أين المراكز والمعاهد اللازمة للبحث والترجمة في سبيل توفير المادة العلمية اللازمة لتطور الحياة العلمية؟ وأين مراكز ومعاهد البحث اللغوي لزيادة الاهتمام بتعليم اللغة العربية والامازيغية وتطوير وسائل تدريسها ليصبح المواطن قادرا على الاستفادة من طاقاتها التعبيرية حتى تحافظ على دورها في حفظ الهوية الوطنية وتحقيق المزيد من التفاعل مع الواقع والتطورات الحديثة !؟
إن السياسة الثقافية الراهنة – إن أمكن تسميتها كذلك- لم تعرف كيف تصوغ استراتيجية التغيير أي صياغة مشروع وطني للتنمية الحضارية على أسس واقعية لتغيير البنية الفكرية والمادية للمجتمع انطلاقا من اعتماد المعرفة العلمية الشاملة القادرة على تشريح وفهم وتحليل قوانين المجتمع ونظام مؤسساته التربوية والسياسية والاقتصادية والثقافية، كما أن صياغة مشروع وطني للتنمية الحضارية يتطلب فهم المجتمع من خلال دراسة مخزونه التاريخي وظروف تفاعلاته المعاصرة مع تحديات العصر المحيطة به.
مثل هذه الاستراتيجية الجديدة تتطلب من الحكومة وأي حكومة توكيل هذه المهمة لمثقفيها ومفكريها وعلمائها ومربيها وفقهائها وخبرائها (لا لتكنوقراطييها فقط) لأجل تكوين فريق عمل علمي متنوع الخبرات متكامل التخطيط والتنفيذ ومتسلح بعقيدة الاستمرار التاريخي المبدع للأمة المغربية.
مثل هذا الطموح سيؤدي بنا إلى تخفيف البؤس الروحي لأغلبية أفراد المجتمع الذي يعيش خارج دائرة الثقافة الجديدة، والذي يتحول إلى جماعات لا شخصية لها ولا أبعاد ولا آفاق ولا آمال.