لست من المصدقين أن الصحافي الجزائري سعيد بوعقبة تم اعتقاله على خلفية مقاله عن ولاية الجلفة…
بالرغم من كون بعض العبارات تفتح الشهية للتأويل المفضي إلى التهويل الذي تحبه الذائقة البوليسية لنظام الجزائر، فإن السخرية التي صيغت بها عباراته لا تكفي وحدها صكا للاتهام.
قلم بوعقبة ميزته السخرية في صنع كتابة تجمع بين العمق وبين السلاسة، وله رؤية في السياسة والديبلوماسية والتدبير الوطني تسير على خط متواز مع خط الدولة الحاكمة في الجزائر. وما كتبه، في موقع “المدار تي في” ساخرا من سياسات لا تعير للمجال اهتماما في وضعها لا يبرر اعتقاله، فهو تفكه «عن وجود أسباب خفية لاختيار أماكن إقامة المشاريع الاقتصادية»، وقد بدأ فيه «بولاية الجلفة المعروفة بطابعها الرعوي، والتي سيقام فيها مشروع بالتعاون مع قطر لتربية الأبقار».
ومما قال: «إذا اختار الرّئيس تبون فعلا ولاية الجلفة، وبلدية البرين على وجه الخصوص، لتربية أبقار المشروع القطري، فقد أصاب هذه المرّة عين الحقيقة! فالأمر يُعد ترقية لمنطقة الجلفة، من مستوى الخرفان، إلى حجم الأبقار!».
وتابع: «تتذكرون أنّ ولاية الجلفة، هي التّي تنطلق منها دائما التّصحيحات في الأحزاب لصالح السُّلطة، وهي التّي تنطلق منها المسيرات العفوية المُؤيدة للسّلطة! وهي التّي تتبارز مع ولايات أخرى، في نسبة المُشاركة في الانتخابات بالتّزوير!».
والواضح أن الحيوانية السياسية هي موضع السخرية وليس الحيوانات بحد ذاتها، أو البقر في المشروع القطري..
لقد فطن الصحافي إلى الحيلة، ورد على الهجوم الذي قادته مليشيات النطام السياسية والإعلامية ببلاغة الابن البار «رقبتي فداكم يا أهل ولاد نابل»..
وأما العبد الفقير لرحمة ربه فلن يقنعه النظام بأن يدافع عن بقر اولاد نايل،ولا حتى الاتهام المبطن بأنه هاجم الديبلوماسية الرسمية التي تعادي المغرب وإسبانيا..
ذلك أن الفيلة في االعسكر الجزائري لهم ذاكرة بعيدة في الأحقاد عادت بهم إلى سنوات الاحتراب بين فصائل النظام، يوم كانت بعض الأقلام تجد ممرات للهواء بين كتل النظام المتصارعة..
فقد كان النظام يلتهم بعضه في 2015 و2016، فكانت مقالات بوعقبة الأكثر حدة وقوة وشجاعة لا تثير كل هذا اللغط والإجراءات القاتلة للكتابة.
وقد سبق للعبد الفقير إلى رحمة ربه أن نشر مقالة في 17 فبراير 2016 عن ما كتبه السعيد بوعقبة.. تحت عنوان بارز وقوي: «ضمنا إليك أيها الملك«!.
لقد كتب الصحافي على أعمدة الخبر الجزائرية مقالته هذه ونشرها في يوم 10 فبراير 2016.. وهذا الأسبوع تحل الذكرى السابعة لصدوره (10 فبراير 2023)…
ولا شك أن النظام الذي يعود إلى 1963، وإلى الفترات الرومانية ليبرر حقده للمغرب، سيجد مقالة من هذا النوع حديثة للغاية.
ماذا كتب بوعقبة في المقالة التي لا شك أن النظام تذكرها قبل أن يبحث عن مسوغات أخرى غيرها لاعتقاله؟ لقد كتب عمودا اتهم من بعده بالعمالة للمغرب واعتبر فيه أن «المغرب وضع الأسس فعلا لإقلاع اقتصادي يشبه إقلاع تركيا قبل 20 سنة».
ومما جاء فيه «كتبت منذ سنوات في هذا الركن عمودا تحت عنوان: «ضمّنا إليك أيها الملك»! تحدثت فيه عن خيبة نظام الجزائر الذي يتعرّض للحصار العالمي بسبب الحرب الأهلية التي نشبت في الجزائر، في وقت كان الملك المرحوم الحسن الثاني يتفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول مشاريع اقتصادية واعدة، وصيغ تفضيلية متقدمة مع الاتحاد الأوروبي في مجال التبادل التجاري في الزراعة والصناعة والصيد البحري.
واليوم أثمرت هذه الاتفاقات المغربية مع الاتحاد الأوروبي جملة من الإنجازات أرست الأسس لنهضة حقيقية في المغرب الشقيق، دون بترول ولا غاز.. أنجز المغرب عدة مصانع للسيارات الأوروبية والآسيوية، هي الآن تنتج عشرات الآلاف من السيارات تغطي السوق المغربية وتصدر الفائض للخارج.. وشغّلت هذه المصانع عشرات الآلاف من العمال المغاربة.
أنجزوا الطريق السيّار المغربي بمواصفات عالمية وبأسعار تصل إلى نصف سعر ما أنجزنا نحن به الطريق السيّار وبمواصفات محلية.. وأنجز المغرب طريقه السيّار بقرض دولي.. واستغلاله الآن يساهم في تسديد ديون وخدمات هذا القرض! في حين ذهبت أموال الطريق السيّار الجزائري في عملية «بارد وحلو»!
المغرب الشقيق أنجز القطار السريع، رغم أن المغرب ليس بلدا مترامي الأطراف كما هو حال الجزائر.. لكن رئيس الجزائر عندما عرض عليه مشروع القطارات السريعة، صاح فيهم بالفرنسية «لا أريد قطارات سريعة»! هو يريد بلدا يسير كالسلحفات حتى في القطارات!
الرئيس أيضا وجماعته جمّدوا مشروع «ديزارتاك» الذي اقترحه الألمان على الجزائر لإنتاج الطاقة البديلة.. وربما رفضت الحكومة الجزائرية العرض الألماني بنصيحة فرنسية لتبقى الجزائر حديقة خلفية لفرنسا في هذا المجال.. واليوم المغرب الشقيق أنجز مزرعة عملاقة للطاقة الشمسية في منطقة كان يقيم فيها النظام أكبر سجن للمغاربة، فتحوّلت المنطقة إلى مزرعة للنور تسمى «مزارع النور لإنتاج النور».. في حين لا تزال منطقة رڤان ووادي الناموس عندنا رمزا للسجن! مفاعل «نور» الذي أنشأه الشاذلي في الثمانينيات للطاقة الذرية بمنطقة درارية، تحوّل إلى مفاعل الظلمة.. فقد أحاطت به العمارات الإسمنتية إحاطة السوار بالمعصم.
اليوم المغرب الشقيق يتفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول صيغ تفضيلية للمغاربة في تنقل الأشخاص والسلع.. لأن المغرب وضع الأسس فعلا لإقلاع اقتصادي يشبه إقلاع تركيا قبل 20 سنة، ولهذا لا يتحرّج الملك في رؤية المعارضة المغربية تأتي إلى الجزائر تتفاوض مع الجزائريين حول فتح الحدود، ولا تتهم بالخيانة للمغرب، كما هو الحال في الجزائر عندما تتحرك المعارضة في أي عمل سياسي، وطنيا كان أو دوليا! وقد اتهمت أنا بالعمالة للمغرب بسبب كتابة هذا العمود!»..
كان ذلك قبل الوضع المعتبر اليوم مع الاتحاد الأوروبي، وكان ذلك قبل المنجزات الاجتماعية والديبلوماسية التي حققها المغرب،.. واليوم يجد النظام في أرشيف الكاتب ما يبرر، بغباء، هجومه عليه..
للمتتبع الحقوقي أن يدرج الاعتقال ضمن تصفية الحريات، أو يدرجه في الهجوم على آخر قلاع الحرية، كما هو حال حل الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان واعتقال الصحافيين الآخرين ، لكن أعتقد جازما بأن الطغمة لا تفكر سوى باقتصاد الحقد تذكرت المقال إياه وأرادت أن تعاقبه عليه…