قبل حوالي ثلاثة وثلاثين سنة من اليوم، وخلال مؤتمر “لابول”، الفرنسية في شهر يونيو 1990، لقمة فرنسا-إفريقيا، “أَمَر” السيد فرانسوا ميتيران، الرئيس الفرنسي آنذاك، في خطاب افتتاح المؤتمر، الدول الإفريقية بالقيام بإصلاحات ديمقراطية، وربط استمرار المساعدات الفرنسية لتلك الدول بمدى التقدم في تلك الإصلاحات…

وحده الملك الحسن الثاني تدخَّل في المؤتمر، مُحذِّرًا من النزعة الأبوية ومن النَّفَس الأُستاذي، في ذلك الخطاب، ومُنبِّها إلى أن الديمقراطية ليست لها مُوَاصفات واحدة ومُوَحَّدة، وأن الدول الإفريقية هي المعْنِية بابْتِكار الأشكال والمضامين الديمقراطية المُناسبة لأوضاعها الاجتماعية الخاصة، وبدون إملاءات وإسقاطات من خارجها…

وقد صاحب الملك الحسن الثاني، خِطابه المُعَبِّر عن غيرته الحادَّة على استقلاليته الفكرية والسياسية في علاقاته مع فرنسا، ومُحَرِّضا على رفع الصوْت الإفريقي الرافض للتبعية في العلاقات الإفريقية مع المستعمر القديم… صاحب ذلك، بأن كان في المؤتمر مُسْتَقلا عن الضِّيافة الفرنسية…

إذ لم يكن ضيفا على فرنسا… إقامتُه كانت في الباخرة المغربية التي أوْصَلته من طنجة إلى مدينة “لابول”… وصل إلى المؤتمر بالسيارة الملكية المرقمة في المغرب… وفي مَأدُبَة العشاء الرسمية تناول طعاما مغربيا أُعِدَّ له في مطبخ الباخرة المغربية… فضلا عن وصوله، عمْدا، مُتأخرا إلى قاعة المؤتمر، وقد طال انتظار الرئيس له. وهي كلّها إشارات ديبلوماسية وبروتوكولية الْتَقَطَ، المُتَتَبِّعون للمؤتمر، أبعادها الغاضبة من الدروس الفرنسية للدول الإفريقية…
بعض الدول الإفريقية جرَّبت الوَصْفَة الفرنْسية في طبخ الديمقراطية، القائمة على إنْبات تعددية سياسية في غير تُربَتها، فألْهَبت الحُمَّى القبلية في بنياتها الاجتماعية… وأطلقت فيها حروبا أهلية، عمَّقت شُروخَها وأخَّرت إنْجاز تطلُّعاتها، وبكُلْفة فادحة من خسائر بشرية، تنموية وسياسية… ولدى بعضها، آثارها سارية المفعول إلى سنوات الناس هذه… في معاناة من عدم الاستقرار السياسي وتواصل الإضرابات الاجتماعية وهشاشة المِعْمار الديمقراطي…
لدى الحسن الثاني كانت سياسة الاعتراض على الهَوَى الأُسْتَاذي (وهو تلطيف للنَّزْعَة التَّحَكُّمية) لرؤساء فرنسا، مسألة كرامة وخط أحمر مبْدَئِي… كانت له مواجهة مع الجنرال دوغول أصلا… ومنها وَضع لمن جاؤوا بعده قواعد التعامل مع المغرب… وحين واجه ميتران في قمة “لابول”، كان المغرب في موقف ضعف اقتصادي-اجتماعي وبالتالي سياسي. موقف سيكشِفُه تقرير البنك الدولي حول الحالة “الصحية” للمغرب، ثلاث سنوات بعد “لابول”، سنة 1993، والتي وصفها الملك الراحل نفسه بأنها تُهدِّد المغرب “بالسكتة القلبية”… ولكن الملك أبْعَدَ من حساباته السياسية كل احتمالات استغلال فرنسا لضُعْفه، وأبْقى فقط حساب الكرامة والتَّشبُّت باستقلاليته.
ذلك الاعتزاز الوطني وذلك الحماس المبدئي والقطعي للدفاع عن استقلالية الإرادة السياسية للمغرب. سنجده مُتَأَجِّجا في تدبير جلالة الملك محمد السادس للعلاقات الخارجية للمغرب… فهو حافظ على تنوُّعها، وعلى الموروث من توازن، نادر عالميا، في أوج الحرب الباردة بين الغرب والشرق… توازن احترمته واشنطن وموسكو على السواء، وإلى اليوم… بل وعمَّقه بانفتاح أوسع على فاعلين، بدرجات متنوعة من القوة والتأثير، اقتصاديا وسياسيا، على المستوى العالمي، من نوع الصين، اليابان، الهند، تركيا، فضلا على تنوع واتِّساع علاقاته في إفريقيا وفي آسيا وفي أمريكا اللاتينية، وطبعا في المستوى الأول عربيا… وهذا المنهج بات يستند على متانة أبْنِية المغرب السياسية، الاقتصادية والاجتماعية… والتي مكَّنته بالمُؤَهلات وبالقُدرة التي أتاحت له التحكُّم في توجُّهاته واختيار مَسَاراته… واختيار علاقاته، في نوعيتها وفي موضوعها وفي مُستواها وفي مُؤَدَّاها…
لذلك المغرب اليوم، وباقتدار، يشترط في نَسْج علاقاته الخارجية وفي تفعيلها التزامها بقاعدة “رابح رابح”… العلاقات ذات الاتجاه الواحد، صعودا أو هبوطا، لفائدته أو ضِدِّه، مُسْتَبْعَدَة، بل ومرفوضة في مرجعيات ومفاهيم علاقاته الخارجية… وقالها جلالة الملك، بل و”اشترطها”… الانتقائية في العلاقات مع المغرب من أي كان، وخاصة من أصدقائه التقليديين، بلغت الحد الأقصى من عمرها الافتراضي… هي مسلك مُقْفَل وممْنوع في التعاطي مع المغرب… بتلك القاعدة ذهب المغرب إلى إفريقيا، وهو اليوم فيها مُفيد لعلاقاته فيها بقدر استفادته منها… وبذلك هو اليوم فيها قُدْوَة، ومُحَرِّك لنهضتها في امتلاكها لقُدُراتها ولخروجها من حالة الاسْتِكانَة والامتثال أمام “القوة” التي تنتج ضُعْفَها، وتقدم نفسها لها بأنها القادرة على “شفائها” منه…
التمرُّد على الوصاية العسكرية الفرنسية في عدة دول إفريقية، مثال على أن فرنسا فقدت “أظافرها”… وما حدث للرئيس ماكرون من سِجَال ساخِن مع الرئيس الكونغولي السيد تشيسي كيدي، دال على أن “صوت” فرنسا بَحّ وجفَّ “رَنينُه”… وعُموما تَتجه فرنسا في إفريقيا إلى تجربة مأساوية… لا هي تعرف أين هي… ولا إفريقيا تتعرف عليها…
وإذا حصرنا الأمر في علاقات فرنسا مع المغرب… وطبعا المغرب الإفريقي بارز في تلك العلاقة… الوقائع تقول بأن المغرب حرص على تطوير وتعميق كل ما يمتُّ بصِلَةٍ لتلك العلاقة ويُفيدها… وهو إلى اليوم يحرص على ذلك… المشكلة هي أن الرئيس ماكرون لم يَطَّلع جيِّدا أو لم يهتم بالاطلاع على خصائص المغرب الجديد أو الآخر، في إدارته لعلاقته الخارجية… المغرب اليوم، في جيناته السياسية، أن يكون مع شركائه مُفيدا ومُسْتفيدا وليس لهم تلميذا ولا مُريدا، ولا مُجرد مَغْنَم لهم مديدا…
السيد ماكرون، سياسيا، أعِدَّ في حاضنة بنك روتشيلد… في دمه السياسي، عُملات، سندات، قروض وفوائد… والدول ليست بنوكا… تهتم فقط بارتفاع منسوب الأموال في أرصدتها… الدول كائنات اجتماعية تتحرك بأنفاس التاريخ… في أنسِجَتها بشر، يتدافع بحوافز نفعية ومُوَجِّهَات مَعنوية… لذلك اضْطَرب السيد ماكرون وهو يلاحظ أن رقم معاملاته مع المغرب في انخفاض، مقابل تصاعُد أرقام مُعاملات الشُّركاء الآخرين مع المغرب… ولم يسأل نفسه لماذا؟… وحتى إذا سأل أو سُئل، يُخْطئ في الجواب… كأنه يقول: هو مجرد تَنَطّع ما يقوم به المغرب، وبمناوشات بسيطة يمكن إرغامه على العودة إلى الانصياع للتوجيه الفرنسي… حتى أنه صرح للصحافة ما معناه “بأن العلاقات المغربية الفرنسية مرَّت من حالة “سِجَال”، أشعلتها الصحافة، ولا علاقة لفرنسا الرسمية بها، وأنه يريد أن يتقدم بعلاقات بلاده مع المغرب…” … والحقيقة هي أن فرنسا “البريئة” من الأزمة مع المغرب، هي من تشُنُّ حَرْبَها ضده بمِدْفَعية “تقطير” استخراج التأشيرات للمغاربة… وبِغارات الحمَلات الإعلامية وقرار البرلمان الأوروبي… وبتصريح ماكرون نفسُه في “قراءته” للأزمة الفرنسية-المغربية، والتي تُقلل من حجمها ومن نوْعها ومن آثارها…
السيد الرئيس يُتابع كيف غادر المغرب “جغرافية” النفوذ الفرنسي إلى فضاءات أرحب للتعاون والتشارك في العالم… وذلك يُقْلقه… وهو يلاحظ كيف يتَّسع الإشعاع المغربي في إفريقيا، اقتصاديا، سياسيا ودينيا… وهذا يُزْعِجُه… وهو يسمع كيف أن المُنظمة الدولية “كافي”، ومقرها باريس، أخرجت المغرب من المنطقة الرمادية وبإجماع أعضائها، المتعلقة بمساطر مواجهة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بما يعني صدقية ونجاعة التدخل المؤسساتي المغربي في الجُهد الدولي، لهدم روافع الإرهاب والإفساد المالي في العالم، وهو ما يؤشر على سلامة آليات الحكامة المغربية وحصانتها بالشفافية ومقومات دولة القانون… وذلك ما لا يسْتَسيغه… ولعل السيد الرئيس اطَّلَع على الاتفاقيات التي وقعها الاتحاد الأوروبي، في الرباط، مع المغرب، خلال زيارة المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسُّع، وهي اتفاقيات تصُبُّ في تطوير آليات أوراش الإصلاحات الأساسية بالمغرب. وفضلا عن قيمتها المالية المعتبرة، قيمتها السياسية بالغة الأهمية… ولا شك أن ذلك سيُدهِشُه…
لو لم يكن السيد الرئيس شارِدا عن تاريخ المغرب وعن تاريخ علاقات فرنسا معه… ولو لم يكن في حالة تيه في الجغرافية السياسية، مع المغرب خاصة ومع إفريقيا عامة، لكان قد تقدم فعليا بخُطوات مُثْمرة، في الاتجاه الصَّحِّ والايجابي لعلاقات فرنسا مع المغرب، بتوسيع دعم فرنسا لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، إلى الإقرار الرسمي والواضح لمغربيتها، منْضَمّا بذلك إلى المدّ العالمي الذي يؤازر المغرب توفيرا لشروط إقرار الحل السّلمي للمنازعة الجزائرية في الحق الوطني المغربي، ولكان انخرط مع المغرب في مساره التنموي المُنتج، المُتحرك، الصاعد والمفتوح على التعاون والشراكة مع أصدقاء المغرب، وخاصة منهم أطراف علاقاته التقليدية، وستكون فرنسا، بذلك، في موقع الرابح مع المغرب، ومن خلاله مع إفريقيا…
رُبَّما أن “الجينات المالية” في سياساته تحدُّ من نظره لشمولية العلاقات مع المغرب ولحمولاتها التاريخية، وربما هي ما يمْنعه من مراجعة ما يتصوره عن المغرب، بينما المغرب ضخ في أوصاله ومفاصله الكثير من جاذبيات.. المستقبل… والكثير من مقومات الاستقلال، الحقيقي، العملي عن فرنسا، لمصلحته، وأيضا، لمصلحة فرنسا نفسها، حتى تفتح عيونها على ما طرأ على العالم من تحولات… وأيضا على ما أصابها من متغيرات…

المصدر: مشاهد