داء السرقة.
كتبها: احمد الدافري
في صيف سنة 1990، كنت سافرت إلى باريس وأنا منتشٍ بكوننا قد حققنا إنجازا غير مسبوق في تاريخ المدينة، عندما قدمنا في جمعية اللقاء المسرحي التي كنا قد أسسناها في مدينة أصيلة في أبريل 1989، عرضا مسرحيا، كنا قد تقدمنا للراحل محمد بن عيسى بطلب برمجته في الموسم الثقافي الدولي لأصيلة، فقبل الطلب، وكان حينها الراحل محمد بن عيسى رئيسا للمؤسسة التي تنظم الموسم الثقافي، ووزيرا للثقافة، وبرلمانيا، ورئيسا للمجلس البلدي للمدينة.
الحدث كان بالنسبة إلينا في الجمعية عظيما.
فقد تمت برمجة عرضنا المسرحي يوم سبت، وتمت برمجة عرض مسرحي لفرقة مسرح اليوم يوم أحد.
فرقة مسرح اليوم كانت تديرها الفنانة الراحلة ثريا جبران، وكان مخرج الفرقة هو زوجها عبد الواحد عوزري.
وكانت قد حدثت لنا مشكلة بسبب هذه البرمجة التي كان قد اعتمدها وأقرها الراحل محمد بن عيسى باتفاق مع الفنان التشكيلي الراحل محمد المليحي الذي كان مديرا فنيا للموسم الثقافي، ومديرا للفنون في وزارة الثقافة.
عرض فرقة مسرح اليوم كان عنوانه “نركبو الهبال”، وكان يقوم على أكسسوار واحد، عبارة عن صندوق كبير، وعلى ثلاثة ممثلين فقط، هم الراحلة ثريا جبران، والراحل محمد بسطاوي، والممثل عبد اللطيف الخمولي أطال الله في عمره.
أما عرضنا نحن باسم جمعية اللقاء المسرحي، فقد كان عنوانه “جدار، جراح، صمت”، وكنت كتبته نصه المسرحي، وتكلفت بإخراجه، وحين كنت انتهيت من كتابته، ناقشنا داخل الجمعية العنوان الذي يمكن أن يحمله، فاتفقنا على العنوان الذي اقترحه الأستاذ عبد الإله فؤاد الذي كان تكوينه الجامعي في الفلسفة وعلم النفس.
المقارنة حينها بين عرضنا المسرحي نحن في جمعية للهواة وبين عرض “نركبو الهبال” لفرقة مسرح اليوم الذي يمثل فيه ممثلون محترفون مشهورون كان أمرا لا يستقيم، وكانت فرقة مسرح اليوم ترغب في تغيير البرمجة، على أساس أن يكون عرضها هي يوم السبت ويكون عرضنا نحن يوم الأحد.
لم نقبل في الجمعية بالتغيير الذي اقترحته فرقة اليوم.
ولم نفهم لماذا طلبت فرقة اليوم بتغيير البرمجة، ولم نعرف السبب، بل إننا اعتبرنا أن الأمر فيه نوع من التعالي علينا. وأحسسنا أن فرقة مسرح اليوم تنظر إلينا على أساس أننا مجرد مبتدئين، وأننا لا نستحق عرض عملنا المسرحي في أمسية السبت.
لم نجد أن هناك مبررا مقنعا لتغيير البرمجة. وتشبثنا بيوم السبت. وكان قرار الراحل محمد بن عيسى صارما. قال لفرقة مسرح اليوم : لا يمكنني أن أفرض أي تغيير في البرمجة. يجب أن يحصل اتفاق بينكم.
وهذا ما حدث.
اجتمعنا في قاعة داخل مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية.
والاجتماع حضر فيه باسم فرقة مسرح اليوم رئيسة الفرقة الراحلة ثريا جبران وعبد الواحد عزري مخرج الفرقة، وباسم جمعية اللقاء المسرحي حضرته أنا بصفتي رئيس الجمعية، والأستاذ الراحل محمد عنان نائب رئيس الجمعية، والأستاذ سي عبد الله الهطى الكاتب العام للجمعية.
في الاجتماع فهمنا لماذا فرقة اليوم ترغب في تغيير البرمجة. فقد شرحت لنا الراحلة ثريا جبران بلطف شديد، وبنبرة فيها تواضع شديد، أن الفرقة لديها عرض يوم الجمعة في مدينة تطوان، وتريد أن تنقل في اليوم الموااي مباشرة من تطوان أصيلة لتقديم عرضها، وإلا فإن الانتظار إلى غاية يوم الأحد سيكلفها تحملات مالية إضافية ستنهكها. فتهمنا الأمر، واتفقنا أن تعرض فرقودة مسرح اليوم عرضها يوم السبت ونحن نعرض عرضنا يوم الأحد، وقد شكرتنا كثيرا الراحلة ثريا جبران على قبول التغيير، ودعتنا لمشاهدة عرض فرقتها، وقالت لنا بأنها في نهاية العرض ستدعو الجمهور داخل القاعة إلى أن يأتي لمشاهدة عرضنا في اليوم الموالي، وهذا ما حدث بالفعل.
عرضنا المسرحي مثل فيه أساتذة وتلاميذ.
مثلت فيه أنا الذي كنت أستاذ مادة الرياضيات في ثانوية وادي الذهب، والأستاذ عبد الإله فؤاد الذي كان حينها أستاذا للغة العربية، والأستاذ عبد الله الهطى الذي كان أستاذا للعلوم الطبيعية، والأستاذ معاذ الجباري فنان تشكيلي وكان أستاذا في ثانوية الإمام الأصيلي الإعدادية، ومثل معنا عدد من تلاميذ من ثانوية وادي الذهب، من بينهم نورا الصقلي التي هي حاليا ممثلة مغربية وأستاذة في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، ويوسف تسوري الإعلامي الذي تقلد العديد من المسؤوليات على رأس إدارة التحرير في عدد من القنوات التلفزية، منها إم بي سي وفرانس 24 وسكاي نيوز عربية وميدي1 تيفي.
أما الأستاذ الراحل محمد عنان، مربي الأجيال في مدينة أصيلة، فقد كان مكلفا باختيار القطع الموسيقية للأعمال المسرحية، وكان يقوم بتسجيل الموسيقى العالمية ويختار الملائم منها، في وقت لم يكن هناك وعي منا بمفهوم الملكية الفكرية للإنتاجات الفنية ولا نعرف أن هناك قانونا ينبغي احترامه بخصوص حقوق التأليف، ولم يكن لدينا أي مشكل في أن نستعمل قطعة موسيقية أبدعها آخرون، لتأثيت الخلفية الصوتية لأعمالنا المسرحية، دون علم أصحابها ودون الحصول على أي ترخيص منهم.
سافرت بعد العرض المسرحي إلى باريس، ومكثت حوالي شهر لدى شقيقي محمد جلال الذي كان حديث العهد بباريس، وكان يقيم في شقة داخل إقامة في المنطقة 17، وكانت العملة الفرنسية حينها هي الفرنك الفرنسي.
الفرنكات التي كانت لدي، صرفت قدرا منها في شراء كتب خاصة بالمسرح، من مكتبة لبنانية قبالة جامعة جيسيو، منها كتاب la formation de l’acteur (تكوين الممثل) بالفرنسية للمخرج والمنظّر المسرحي الروسي كونسطونطين ستانيسلافسكي، وهو كتاب حين رآه في مكتبتي صديق لي اسمه الحراق كان موظفا في دار الشباب بالقصر الكبير وبعدها في دار الشباب بالعرائش طلب مني أن يأخذه ويقرأه ويعيده لي، وبعد مدة طلبت منه أن يعيده لي، فقال لي بأنه أضاعه، فأحسست كأنه ضربني ضربة قاتلة في قلبي.
بعض الفرنكات أيضا خصصتها في رحلتي تلك إلى فرنسا لشراء أشرطة موسيقية كي نوظفها في أعمالنا المسرحية، كان الراحل محمد عنان قد أوصاني أن أبحث عنها، منها ألبومات موسيقى الفنان اليوناني فانجيليس، وموسيقى عازف البيانو الفرنسي ريشارد كلايدرمان.
لم يكن لدي ما يكفي من المال لشراء كل تلك التحف الموسيقية التي كنت أجدها في الأشرطة المعروضة داخل المكتبة الموسيقية الضخمة VIRGIN فيرجين بشارع شونزيليزي.
ولم تكن حينها هناك كاميرات مراقبة.
كان فقط حراس يرتدون أقمصة بيضاء وسراويل زرقاء ويحملون بادجات، يذرعون فيرجين جيئة وإيابا، ويحملقون بتركيز شديد في الزبناء، ويركزون على من يشتبهون في أمره.
أحد حراس الأمن أولئك، وكان قوي البنية، وله شارب كثيف. وصلعة وسط رأسه مع بعض الشعر في الجانبين، كان منذ أن دخلت إلى فيرجين وهو يتبعني من رواق إلى رواق.
كان حينها شعري كثيفا وخشنا، وكنت نحيف البنية، وكنت أبدو كأنني هربت على التو من مُعتقَل للشيوعيين والهيبيين ومستهلكي العشبة الكتامية الخضراء.
كنت كلما وقفت في رواق ووضعت في أذني السماعات التي تضعها إدارة المتجر رهن إشارة الراغبين في الاستماع إلى نماذج من موسيقى الألبومات المعروضة للبيع، إلا ووجدته واقفا قربي.
وحين كنت ألتفت وأنظر إليه، كان يدير وجهه إلى جهة أخرى كي لا أفطن أنه يراقبني.
أزعجني كثيرا.
لم يكن لديه من شغل لمدة تفوق نصف ساعة سوى أنا.
ضقت ذرعا به. فاقتربت منه وسألته هل هناك مشكلة. فنظر إلي بحنق. ولم يجبني. بقي واقفا.
فقلت له بأنني فعلا ليس لدي المال كي أشتري كل ما أريد. لكني لن أسرق شيئا.
وطلبت منه أن يتوقف عن مطاردتي، وأن يراقب أشخاصا آخرين قد يكونون الآن منهمكين في سرقة أشياء من المتجر رغم أن شكلهم لا يوحي بأنهم سارقون.
فنظر إلي مقطبا حاجبيه وابتعد قليلا عني ووقف. ثم التفت إلي وبدأ ينظر إلي مرة أخرى.
كنت أريده أن يجيبني، كي أتعرف على صوته، وأعرف كيف يتكلم، وأخمن من أي بلد هو قادم، لأن ملامح وجهه كانت توحي أنه قادم من بلد آخر.
لكنه لم ينبس نهائيا بأي حرف.
كان يراقبني فقط.
مثل رجل آلي.
ففهمت أنه مبرمج على أن يراقبني أنا بالضبط..
رغم أنني لم تكن لدي أية نية إطلاقا في سرقة أي شيء من داخل المتجر.
تذكرت هذه الحكاية، حين قرأت اليوم خبرا في جريدة إلكترونية مغربية، عن أن الفرقة الوطنية للدرك الملكي قد ألقت القبض على موظف سابق في مصلحة الضرائب بمنطقة حدكورت بجماعة بلقصيري، يُشتبه في تورطه في عملية اختلاس ضخمة ناهزت 4 مليارات سنتيم.
تذكرت أنني في شبابي لم يكن لدي المال كي أشتري كل الألبومات التي كنت في حاجة إليها. وكان يراقبني حارس بشدة داخل المتجر معتقدا أنني سأسرق أشرطة موسيقية.
علما أنني لم تكن لدي نية السرقة.
ولا أعرف لماذا لا يوجد في إداراتنا نحن، حراس في مثل إصرار وصرامة ذاك الشخص، رغم أن هناك داخل إداراتنا من هو مريض بداء السرقة.
وهذا ما كان.