زلة قلم:
حبة القمح
بقلم: عبدالهادي بريويك
في دهاليز الحياة، حيث تتداخل الأسئلة بالخطى، وتتشابك الظلال بالضوء، ارتقت حبة القمح من عمق التراب إلى علوّ سنبلة، مترعة بالعطاء، باسقة صوب السماء، تعانق الشمس كمن يحتضن المعنى، وتلاطفها نسائم الصباح كطفلٍ يتلمس الدفء الأول للحياة.
جاورها ندى الورد، يسقيها سرّ الانتماء، وحنوّ الأرض، وكأنها تتنفس من رئة الزرع، وتقتسم الهواء مع الكائنات كما تقتسم آلام القطاف، ومرارة الرحيل عن موسمٍ مضى، وعن جدولٍ كان بالأمس موردًا للعطش، وملاذًا للأمل.
وفي مهرجان السنابل، حين تتأهب الحياة لقطاف أحلامها، تسابقت الحبات لتنال حظوة الوجود، بشرط ألا تنتهي مطحونةً في أفواهٍ لا تشكر، وبطونٍ تنسى، ومجاريَ تُهدر فيها الكرامة بعد أن يفرغ الجسد.
آنذاك، وفي غفلةٍ من التوازن، نبتت سنابل شاذة عن ناموس الأرض، قررت أن تتمرد على قوانين الطبيعة… كبرت، لكنها برؤوس خاوية.
تطاولت، وتوهّمت الشموخ، لكنها لم تكن سوى فراغٍ في ثوب الغرور.
وفي المقابل، ظلت السنابل الممتلئة، تلك التي حملت في داخلها طزاجة القمح، وصدق الأرض، تُنكس رؤوسها تواضعا، لا تهزها الريح، ولا يهينها الدوس، ولا تخشى المصير، فالمطحنة لديها ليست موتا، بل بعث جديد في صورة خبز، يمنح الحياة لمن لا يملك قوتها.
هكذا، عرفت حبة القمح أنها إن كانت صادقة في انتمائها، فحتى الفناء فيها ولادة.
أما من ادّعى الكمال، وهو فارغ، فما هو إلا قشرةٌ تُذروها الريح، وتنسيها الأيام.
